الشاعر الجاهلي... فكره وعلاقته مع الطبيعة في مؤتمر بجامعة أكسفورد

في مؤتمر أكاديمي خاص، في كلية سانت جونز في أكسفورد، يحيي ذكرى المؤرخ والأستاذ الجامعي البروفسور «مارك وتوو» المتخصص في دراسات العصور الوسطى، حضره مؤرخون وأستاذة في دراسات العصور الوسطى؛ قدّم طلبة الجامعة في دراسات الماجستير، ومؤرخون عملوا مع وتوو أوراقهم البحثية، وفق رؤية المؤرخ الراحل، لتشجيع نهج أكاديمي في الدراسات الجامعية لمجتمعات حوض البحر المتوسط الحضرية، وغير الحضرية في العصور الوسطى اليونانية والرومانية والبيزنطية والإسلامية.
هذا المنحى الأكاديمي لجامعة أكسفورد يشمل دراسات في فكر الشاعر الجاهلي، وفكر الإنسان الجاهلي في البادية... والفكر الجغرافي الوصفي العربي الإسلامي.
تناولت أوراق البحث هذه العناوين، في أوراق بحثية شملت كماً هائلاً من المعلومات من مصادر تاريخية متنوعة؛ يونانية ورومانية وبيزنطية وإسلامية، باعتبار الحضارات موروث البشرية جمعاء، والدراسات عنها ينبغي أن تنظر في صفة كونية فكر هذه المجتمعات، في الحضر وفي البادية، وفي أصول هذا الفكر في الثقافات القديمة. وهذا النهج الأكاديمي في الدراسات عن الصفة الكونية لفكر مجتمعات العصور الوسطى، كما جاء في عنوان المؤتمر «Urban and Rural Landscapes in the Medieval Mediterranean»
الذي عقد نهاية الشهر الماضي لمدة يومين، هو منحى أخذ به المؤرخ «مارك وتوو» في دراساته ومؤلفاته عن فكر مجتمعات الدولة البيزنطية، من بداياتها الأولى كاستمرار للإمبراطورية الرومانية في الشرق، حتى غدت قوة متعددة الأعراق والأجناس.
ويقتضي هذا المنحى - كما أوصى به المؤرخ الراحل - الابتعاد عن نهج السرد التقليدي لتاريخ السلالات السياسية في هذه المجتمعات، لكي تصبح الدراسة الأكاديمية دراسة في فكر سكان هذه المجتمعات، وفي جغرافية بلدانها ومصادر إمكاناتها.
والتعريف الأكاديمي للفكر هنا أنه قد يعني دراسة الآثار لفترة من الفترات، باعتبار الآثار المادة الثقافية للمجتمعات فيها، أو دراسة فكر الشاعر الجاهلي لحقبة متأخرة من التاريخ، باعتبار هذا الشعر لوحة فنية أثرية بحاجة إلى عالم لفك مدلولاتها والدلالات اللغوية للألفاظ فيها. فالدراسات في الشعر الجاهلي ينبغي أن تنظر في المكانة العالمية بل الكونية لفكر الشاعر الجاهلي، وكذلك في الصفة الكونية لفكر المجتمعات في البادية، كما الدراسات التي تركز، مثلاً، على الميثولوجيا الإغريقية واليونانية.
خلال المؤتمر، قدّمت البروفسورة «جوليا بريي» من قسم الدراسات الشرقية، وهي متخصصة في الأدب العربي للعصور الوسطى، ورقة بعنوان «تحليل الفكر الجغرافي الوصفي في الجزيرة العربية في القرون الوسطى». ووزعت على الحضور قائمة بأسماء المصادر العربية والأجنبية التي تطرقت إليها في ورقتها.
وتساءلت المؤرخة «بريي» عن سبب انحسار اهتمام الكُتاب بهذه المادة في السنوات الأخيرة، وقالت إنها لا تظن أن التقصير من جانب دور النشر فقط.
وبدأت حديثها عن تطور الأدب الوصفي الجغرافي العربي في العصر العباسي، وحاجة الدولة العربية الإسلامية لها، «حيث أكدت أن معرفة الطرق والمسالك حاجة سياسية ضرورية للدولة»، مشيرة في هذا الصدد إلى كتاب المؤرخ الإنجليزي «هييو كندي» عن التاريخ السياسي للخلافة العباسية، وكان هذا المؤرخ حاضراً في المؤتمر.
ونقلت «بريي» من الباب التاسع من كتاب «الفرج بعد الشدة» للقاضي المحسن بن علي التنوخي، قصة التمساح. وكذلك من «كتاب الحيوان للجاحظ». وذكرت أن أسلوب السرد الوصفي الجغرافي العربي يجمع بين الطوبوغرافية والإثنوغرافيا وعلم الاجتماع، وهو أسلوب ذكي لقراءة الجغرافيا في نص وصفي.
أما الدكتورة ناديا جميل، وهي من كبار الباحثين في مشروع للمجلس الأوروبي بعنوان «توثيق التعددية والتعايش، القانون والتعددية في الوثائق الإدارية والقانونية لمملكة صقلية (من 1060 - 1266)»، وكانت قد عملت في قسم دراسات اللغة العربية في جامعة أكسفورد، وصدرت لها باللغة الإنجليزية دراسات كثيرة، وكذلك كتاب عن الشعر الجاهلي بعنوان «الأخلاق والشعر في القرن السادس عشر»، فقدمت في المؤتمر بحثاً عن الشعر الجاهلي قالت فيه: «إن الجزيرة العربية مستودع لأصوات نسجت حول مسعى الإنسان وتجربته، وبحبكة محكمة، مع تكوين بيئته وما يراه من الطبيعة والنجوم والأنواء، فكلها وسائط يمكننا من خلالها أن نتقصى عن كثب أزمة الذات الفردية منها والنفسية، وإحباطاتها وإسقاطاتها الوجدانية في الشعر الجاهلي». فهذا الخطاب الفني بعيداً عن كونه «فناً من أجل الفن» - مع أنه غالباً ما يكشف عن غاية النبوغ والقوة - هو يرسم مسرحاً شاملاً من الصراع والتنفيس عن النفوس، والخطاب نفسه يستخدم لأغراض الوعيد والتوعد وفي المديح والاسترضاء، فهو خطاب يجرح ويداوي بحثاً عن الانبعاث وانبعاث الذات.
وترى الباحثة أنه من بين كل التراكيب الشعرية التي صاغها الشاعر الجاهلي عن الطبيعة كان أكثرها تأثيراً تلك التي عبر فيها عن شكل السماوات، فاتخذت في أشعاره شكل «طاحونة الرحى السماوية». وعرضت الباحثة على الشاشة صورة بعنوان «فأس الرحى... حركة الجدي حول القطب في عصر النبوة»، ملكية حق نسخ هذه الصورة للأستاذ السعودي «خالد العجاجي».
وهذه الطاحونة هي عبارة عن مجموعة رحى تمثل الأرض بصفتها الأساس الذي بنيت فوقه السماء، والتي تدور بلا توقف حول محورها، ليلاً نهاراً.
كما أن فكرة طاحونة الرحى في الشعر الجاهلي لازمت وصف أسلوب الكر والفر للمحاربين في المعارك، وأسماء النجوم التي تصنع أنواؤها المطر، والتي اقترنت عند الشاعر الجاهلي بأسماء أبناء المحاربين من النبلاء، وبقوة الرجال والجيوش التي تغير كالعواصف الرعدية والفيضانات، كما في هذين البيتين لبشر بن أبي خازم:

عَطَفْنا لَهُم عَطْفَ الضَّروسِ مِنَ الْملا
بِشَهْباءَ لا يَمْشي الضَّراءَ رَقيبُهـا
فَـلَــمّـا رَأَوْنـا بِـالـنّـِسـارِ كَــأَنَّـنـا
نَـشاصُ الـثُّـريّـا هَـيَّجَتْها جَنُوبُهـا

وترى نادية جميل أن التلميحات بالطاحونة السماوية غالباً ما تعكس بدقة الأساطير التقليدية للشعوب عن النجوم المرتبطة بالأمطار الموسمية، لكن الأسطورة هنا في الشعر الجاهلي تنظم وتوظف وتسخر لغايات بعينها، كما في هذا البيت للبيد بن أبي ربيعة العامري:

ويُكَلِّلونَ إِذا الرِّياحُ تَنَاوَحتْ
خُلُجاً تُـمَدُّ شَوارِعاً أَيْتامُهَا

العلاقة مع الحيوان
وتنتقل الباحثة في ورقتها البحثية إلى المكانة البارزة للحيوان في حياة الجاهلين وفي إبداعهم الشعري. تقول عن ذلك: «نجد في الشعر الجاهلي مقتطفات شعرية ثرية جداً، لا تعكس فقط المعرفة الدقيقة بدورة حياة المخلوقات في الطبيعة، وإنما أيضاً الإسقاطات النفسية، ومشاعر الخوف أحياناً من هذه المخلوقات». وتذكر الباحثة أنه كانت للظباء والحمار والثور الوحشي، قيمة أساسية في الشعر الجاهلي، وخاصة المها حيث تربط القصائد بين المها العربي وبين الرجال والنساء من أحرار القبيلة. والمغزى هنا أن المها العربي ينعم بصفة غير عادية من «النقاء والخلو من الخطايا»، ما يميزه عن الكائنات الأخرى. وهذه الفكرة تعكسها كلمات الشاعر الحارث بن حلزة اليشكري (توفي سنة 580 ميلادياً)، يدين في شعره هنا طلباً للفدية غير عادل، ويعتبره خرقاً للعرف القبلي.

عَنَناً بَاطِلاً وَظُلْماً كَمَا تُعْـ
تَرُ عَنْ حَجْرَة الرَّبيضِ الظِّبَاءُ

ثم انتقلت المحاضرة للحديث عن صراع الإنسان الجاهلي مع الحيوان الوحشي كمعادل لصراع الإنسان مع الحياة وتأكيد للعلاقة الوطيدة بين الشعر وبيئته. وهنا تنقل بإيجاز مشهداً لمعركة الحمار والثور الوحشي، من مرثية فريدة «مرثية أبي ذؤيب المخضرمي» للشاعر «خويلد بن خالد بن محرث الهُذَلِي»، (توفي سنة 28 هجريا – 649 ميلادياً):

وَكَأَنَّهُنَّ ربابَة وَكَأَنَّه يَسَرٌ
يُفيضُ عَلى القِداحِ وَيَصْدَعُ
فَوَرَدْنَ وَالْعَيُّوقُ مَقْعَدَ رابئِ
الـضُرَباءِ فَوْقَ النَّظْمِ لا يَتَتَلَّعُ