فلسطينيّو لبنان ولبنانيّو فلسطين...

قبل إجراءات وزارة العمل اللبنانيّة وبعدها، وبها ومن دونها، هناك مشكلة تطال الفلسطينيين في لبنان. بعض خلفيّاتها كامن في حروب الماضي القريب وأشباحه. بعضها كامن في صوَرٍ عن الحاضر والمستقبل ترسمها عواطف وانحيازات شتّى. لكنْ يبقى أنّ الحجج المطروحة مطروحة للإثارة لا للإقناع. فإذا كان معظم السوريين حديثي الوفادة فالفلسطينيّون يعود تاريخ نزوحهم إلى قيام إسرائيل في 1948، وإذا كان السوريّون «كثيرين» فالفلسطينيّون قليلون: في أواخر 2017 أعلن الإحصاء المركزي اللبناني أنّ عددهم «في المخيّمات والتجمّعات بلغ 174422 فرداً خلال 2017 يعيشون في 12 مخيّماً و156 تجمّعاً». وكالة الغوث (أونروا) ترفع العدد إلى 470 ألفاً، لكنّها تستدرك: «ليس لدينا إحصاء عن اللاجئين الفلسطينيين المقيمين حاليّاً في لبنان، فإذا قرّر أحدهم أن يغادر فإنّنا لا نعرف بذلك». والحال أنّ الشبّان الفلسطينيين يغادرون، منذ ثلاثة عقود ونيّف، مدفوعين باليأس. القليلون الباقون يبحثون بإلحاح عن فرصة للرحيل.
الأرقام الضئيلة لها وقع الصاعقة على من يهوّلون بالأرقام. مع هذا، ينطبق هنا أيضاً ما قيل عن خرافيّة اللاساميّة في بولندا: كلّما قلّ عدد اليهود زادت اللاساميّة.
إذاً من غير المجدي أن نتشدّق بالمؤامرات التي تهدّد لبنان، وبالتوطين الذي لا يطلبه أحد، وبباقي المشاريع الخطيرة التي يُفترض أن ينفّذها مُسنّون وأطفال جائعون. ولنغادر أيضاً أشكال الكلام المداور والملتوي: لقد سبق لثيودور هرتزل أن وصف مفاوضاته مع السلطان العثماني عبد الحميد على النحو التالي: «تعرف المفاوضات التركيّة: إذا أردت شراء سجّادة، عليك أوّلاً أن تشرب ستّة فناجين قهوة، وأن تدخّن مائة سيجارة، وتروي قصصاً عائليّة، وتورد من وقت إلى آخر كلمات قليلة عن السجّادة». إنّنا ينبغي أن نتحدّث في السجّادة، وأوّل خيوط السجّادة أنّ اللبنانيين، المشهورين بهجراتهم، يطالبون بحقوقهم في بلدان الهجرة، وتصل هذه الحقوق، كما نعلم جيّداً، إلى نيل الجنسيّة! من غير المقبول بالتالي طلب الحدّ الأقصى لأنفسنا من البلدان التي نتوجّه إليها مختارين، وإنكار الحدّ الأدنى على غيرنا ممن يأتي إلى بلدنا مضطرّاً.
إنّ للتعاطي السائد مع فلسطينيي لبنان، فضلاً عن وجهه الأخلاقي – الإنسانيّ، وجهين آخرين:
أوّلاً، البُعد الأمنيّ، حيث يتكرّر الخطأ نفسه، مرّة بعد مرّة، منذ 1948: متى حلّ الجوع والقهر حلّ السلاح والتنظيمات المسلّحة. وللتذكير، فـ«الإخوة الفلسطينيّون» ممنوعون من مزاولة 72 مهنة، ومن السفر إلى الخارج، ومن تملّك البيوت، ومن الانتساب إلى النقابات... وكانت التراجيديا الإغريقيّة القديمة قد حذّرتنا: إنّ كلّ عشاء من لحم البشر يُنتج عسر هضم بعد نصف جيل.
وثانياً، أنّ طبيعة لبنان نفسه على المحكّ. هل يريده اللبنانيّون بلد قوقعة كارهة وعنصريّة، أم يريدونه بلد حقوق وانفتاح وتعدّد؟ مفهومٌ أنّ العدد يستنفر الحساسيات الطائفيّة ويؤرّقها. هذه مسألة ستبقى معنا إلى أن يقضي الله أمراً. لكنّ المؤكّد أنّ علاج هذه الحساسيات بالعنصريّة هو كمعالجة مرض بمرض آخر. هذا لا يحلّ مشكلة المريض. إنّه يغيّر اسم المشكلة.
بيد أنّ أحد أبرز الأطراف التي تُضرّ بفلسطينيي لبنان مَن يمكن تسميتهم «لبنانيي فلسطين». هؤلاء الآتون إمّا من هوامش الحياة السياسيّة أو من هوامش الحياة الثقافيّة يسعون إلى اكتساب الوظيفة والمعنى بالاستثمار في موضوع فلسطين. إنّهم «عشّاق فلسطين»، يكابدون «عشقها»، مُستمدّين مخيّلتهم مما كانت عليه الأفلام العاطفيّة الهنديّة قبل ثلث قرن.
والفوارق بين فلسطينيي لبنان ولبنانيي فلسطين كثيرة. الأوّلون يسعون وراء حقوق مدنيّة محدّدة وملموسة في العمل والانتقال وسواهما. الأخيرون يسعون وراء فكرة حربيّة ليسوا قلّة مَن يرون أنّها طوبى فادحة الكلفة. هكذا تُستَخدم الدعوة الحربيّة للإضرار بالدعوة المدنيّة، وتتولّى خطابة «الكفاح المسلّح» تخويف اللبنانيين من ضحايا مقهورين وخائفين. فوق هذا فإنّ فلسطينيي لبنان يريدون حقوقهم في مجتمع بعينه، وهو مجتمع لا يستطيع أن يمنحهم حقوقهم إلاّ متى كان صحّيّاً وصحيحاً. أمّا لبنانيّو فلسطين فلا يمانعون في تصديع هذا المجتمع، خصوصاً علاقاته الداخليّة وحدوده وسيادة دولته على قرار الحرب والسلم، حبّاً منهم بالفكرة – الطوبى. لكنّ الفارق العملي الأهمّ أنّ لبنانيي فلسطين وحلفاءهم انتهازيّون في تضامنهم مع المدنيين الفلسطينيين في لبنان وفي استنكارهم إلحاق الأذى بهم. يصحّ هذا في الموقف من القرارات الجائرة لوزراء الشؤون الاجتماعيّة والعمل في عهد الوصاية السورية، وهم إمّا بعثيّون وإما سوريّون قوميّون، كما يصحّ، قبل ذلك، في «لفلفة» حرب المخيّمات والتكتّم على دمها الكثير.
ودائماً كان لبنانيّو فلسطين يربحون وفلسطينيّو لبنان يخسرون. الأوّلون، بكفاءات ومواهب قليلة أهمّها سلاطة اللسان، يشبهون «الطليعة» التي «تمثّل» الطبقة العاملة في الحزب اللينينيّ: تقرّر عنها وتورّطها وتتعاطف باسمها مع الذين دمّروا مخيّم اليرموك في سوريّا، ومن هذه البيئة يظهر «الكوادر» السياسيون والثقافيّون الذين يحتلّون الواجهة ويستولون على العناوين بوصفهم «عشّاق فلسطين» المُتيمين. أمّا الأخيرون فيقع عليهم عبء لبنان وعبء فلسطين في وقت واحد.