الوظيفة الأخرى للديمقراطية

إنّ المجتمعات التي تتأخر في التجارب والمعارف وتتخلف عن ممارسة ما تجب ممارسته والحسم في شأنه تتعثر أكثر من غيرها وتكون عرضة لمزيد من الارتباك والإخفاق.
تأخرت مجتمعاتنا عن ممارسة الديمقراطية، أو لنقل بأكثر مسؤولية ودقة، عن بداية خوض مسار الديمقراطية والتدرب عليها. وللأمانة رأينا في السنوات الأخيرة تجارب لافتة في الديمقراطية السياسية في العالم العربي وكانت فعلاً مشجعة وذات مصداقية وشهدت رعاية داخلية ودولية أمنت لها الشروط الضامنة للحد الأدنى من الديمقراطية.
ولكن ماذا حصل في بعض التجارب في الديمقراطية السياسية التي عرفتها تونس ومصر مثلاً؟ كيف كانت نتائج هذه الديمقراطية وكيف كان التفاعل معها؟ والأهم من هذه التساؤلات هو ماذا أظهرت نتائج أول انتخابات بعد الثورة في البلدين؟
نطرح هذه الأسئلة لأننا ركزنا كثيراً في التجارب الديمقراطية - وإن كانت في بداياتها طبعاً - على الشفافية والمشاركة السياسيّة وحدث انتقال الحكم للأغلبية من الشعب من خلال الأخذ بنتائج صناديق الاقتراع وكأن هذا كل شيء.
النقطة التي أود الإشارة إليها بشكل أساسي هي أنه صحيح أن وظيفة الديمقراطية الحد من السلطوية وإغلاق النوافذ ضد قهر المسؤول كما صور لنا ذلك التاريخ وبعض تجارب الزمن المعاصر، وأيضاً الهدف الأسمى للديمقراطية تمكين الأغلبية من تقرير مصيرها والحكم ومنح الشعب آليات دوران النخب السياسية على الحكم وفق آلية الانتخابات... ولكن التجربة تعلمنا أيضاً وظيفة أخرى للديمقراطية؛ وهي اكتشاف حقائق عن الشعب، ووحدها الانتخابات الديمقراطية على ما يبدو قادرة على إظهارها وتعريتها. ذلك أنه يخطئ من يدعي خارج تطبيق الديمقراطية أنه فعلاً يعرف من هي الأغلبية المهيمنة على الشعب ومن هي الأقلية في واقع الأمر.
سأوضح أكثر: في التجربة التونسية مثلاً عندما فازت حركة النهضة بالأغلبية النسبية في انتخابات المجلس القومي التأسيسي شكل ذلك صدمة كبيرة، لأننا كنا نعتقد أن المجتمع حداثي ومشروع الدولة الوطنية الحديثة قد قضى على الإسلام السياسي، وأن المرأة لوحدها تمثل خزاناً انتخابياً محرومة من غالبيته حركة النّهضة. غير أن الانتخابات أظهرت أن النهضويين أغلبية في مجموع عدد الأصوات عكس التوقعات والتمثلات السياسية السائدة.
بمعنى آخر فإن الوظيفة الأخرى للديمقراطية هي تصحيح الأفكار المسبقة التي نحملها عن الشعب وتقدم لنا بالأرقام الحقائق الاجتماعية السياسيّة، خصوصاً من هي الأطراف ذات الأغلبية والأخرى الأقلية خصوصاً في الحقول السياسية التي تشارك فيها أحزاب ذات مرجعية دينية.
فالانتخابات التي تمثل قلب الممارسة الديمقراطية من خلال القبول بحكم الأغلبية الفائزة هي طريقة لتحديد الأغلبية والأقلية ومن ثم لمعرفة الشعب واقعياً، لا كما نعتقد أو كما نفكر ونتوقع. أحياناً تقدم لنا الانتخابات ما يؤكد توقعاتنا وأحياناً تنسفها بالكامل. وهنا يجب ألا نصاب بالإحباط بالمرة لأن غياب الحريات لا يمنح الشعب فرصة الكشف عن حقيقة ما يريد وكيف يفكر، الأمر الذي يجعل ردود فعلنا تجاه ما تكشف عنه الانتخابات الحرة يتراوح بين المفاجأة والصدمة.
لنأتِ الآن إلى الوظيفة المهمة التي لا نعيرها اهتماماً؛ وهي أن نتائج الانتخابات بما تقدمه لنا من معطيات إنما تقدم لنا بشكل غير مباشر ما يجب أن نشتغل عليه كي تكون الديمقراطية فعلاً مصدر خير وحرية للشعب. فالديمقراطية يمكن أن تمكن الإرهابي من الحكم ويمكن أن تساعد عدو الوطن والجاهل بالدولة والحكم والمجتمع والفاقد للكفاءة... تمكن الذين لا يستحقون الحكم من الحكم. وكي لا يحصل هذا لا بد من تغيير الحقائق الاجتماعية، ومن الاشتغال على الثغرات التي يتسلل منها فاقدو الكفاءة والأهلية وينجحون في التأثير على غالبية الناخبين.
هذه فعلاً مشكلة.
والحل كما يبدو لنا يكمن في التعاطي مع الديمقراطية من أبعادها كافة وتوظيف ما تقدمه من معطيات واقعية من أجل القراءة والدرس والمعالجة. ومن الخطأ الاستسلام ثقافياً واجتماعياً لنتائج الانتخابات واعتبارها واقعاً جامداً لا يتغير. فالمجتمعات المتحركة قيمياً وثقافياً فقط يجب أن تحظى بعناية فائقة من النخب. وإذا تم التفطن إلى الوظيفة الأخرى للديمقراطية فإن كل دورة جديدة من الانتخابات تصبح موعداً جديداً لقياس التغييرات الحاصلة في المجتمع ومقارنتها بما يمكن من يكون مشروع البناء القيمي للشعب في عملية تعديل مستمرة.
إن الديمقراطية التي تشكل فعلاً في مجتمعاتنا اليوم سلاحاً ذا حدين تبقى طريقة مجدية في تحديد الملامح السياسية للشعب كما هي في الواقع وبكل ما فيها من تشوهات صادمة. فهي تقوم على مبدأ حكم الأغلبية ولا تهمها هذه الأغلبية إلا من ناحية عدد الأصوات التي حصدتها.
ولما كنا في أمس الحاجة إلى أغلبية تتمتع بمصداقية في مشروعها المجتمعي، فإن نتائج الانتخابات تساعدنا في ضبط الأغلبية الكائنة اليوم والأغلبية التي يجب أن تكون وغير متوفرة اليوم.