عندما تتحكم الجغرافيا بالسياسة... وهذه هي المشكلة الأردنية!

«إن الزعيم لا يستطيع أن يسلك سياسة خارجية غير التي تمليها عليه جغرافية بلاده»... إن هذا الكلام كان قاله نابليون بونابرت في العقد الأول من القرن التاسع عشر، وأظن جازماً أن وزير الدول للشؤون الخارجية المصري والأمين العام السابق للأمم المتحدة - وإن لفترة «مبتورة» - بطرس غالي الاستراتيجي اللامع، قد استخدمه ببراعة في أحد كتبه التي إن هي أعطيت ما تستحقه من اهتمام في مصر فإنها وللأسف ليست معروفة المعرفة المطلوبة إلاّ من قبل أقلية عربية.
وبالطبع فإن نابليون عندما قال هذا الكلام كان يقوم باجتياح كثير من الدول الأوروبية، حيث كان الصراع في تلك الفترة أسبابه متعددة وكثيرة، منها المياه والمجالات الحيوية والنفوذ الإقليمي ومصادر الطاقة التي كانت تكاد تقتصر في ذلك الوقت على الفحم الحجري وحده.
لكن الانفجار الكبير بالنسبة لهذه المسألة كان في آخر سنوات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، فتلك الفترة كانت فترة «الاستعمار» و«المستعمرات» وحيث تمادت الدول الغربية في «الغزو» كثيراً، فبريطانيا أصبحت صفتها «العظمى» وقد وصلت إلى أقصى شرق الكرة الأرضية وإلى غربيها وهذا ما كانت فعلته فرنسا وهولندا وإسبانيا والبرتغال.
وحقيقة، تلك الفترة كانت فترة صراعات وحروب طاحنة بالفعل، ففرنسا استعمرت الجزائر استعماراً إلغائياً لمائة واثنين وثلاثين عاماً وهذا ما فعله البيض «الهولنديون» في جنوب أفريقيا، وهنا فإن المفترض أنه معروف أن إسرائيل بصفتها دولة أقيمت على حساب الشعب الفلسطيني وأنها إنتاج تلك المرحلة التي شهدت الحرب العالمية الأولى ولاحقاً الحرب العالمية الثانية.
ما كنت أريد الإطناب والاسترسال في هذا المجال، فالهدف بالنسبة لي كان الإحاطة بهذا الذي قاله نابليون إن «الزعيم لا يستطيع أن يسلك سياسة خارجية غير تلك التي تمليها عليه جغرافية بلاده» وإسقاطه على الأردن الذي كان تكوينه الجغرافي قد بدأ في بدايات العقد الثالث من القرن العشرين ثم أخذ هيئته النهائية سياسياً وجغرافياً في نهايات العقد الرابع وبدايات العقد الخامس من هذا القرن نفسه، وحيث أصبحت الضفة الغربية جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية.
منذ تلك البدايات تناوب على هذه الدولة بـ«جغرافيتها» المتحركة أربعة ملوك؛ هم المؤسس الأول عبد الله الأول بن الحسين ثم طلال بن عبد الله ثم الملك حسين الذي استطاع أن يبحر بالأردن كدولة إلى برِّ الأمان ثم العاهل الحالي الملك عبد الله الثاني الذي يقضي الإنصاف الاعتراف بأنه أعطى أكثر بكثير مما ظن كثيرون في البدايات، واستطاع أن يضع نفسه وبلده على خريطة الدول الفاعلة والمؤثرة.
إنه بالإمكان القول وبكل صدق وأمانة إن «جغرافية» هذا البلد، المملكة الأردنية الهاشمية، هي أشد «جغرافيات» دول هذه المنطقة العربية تعقيداً، فالأردن بوصفه دولة نستطيع القول إن بدايته كانت مع القضية الفلسطينية وإن «جغرافيته» بقيت متحركة حيث أقيمت الدولة الإسرائيلية كمشروع استعماري في جزء من فلسطين ثم في عام 1967 احتل الإسرائيليون الضفة الغربية (التي كانت جزءاً من الأردن) شعباً وأرضاً وكل شيء.
وهذا جعل الـ«جغرافية» الأردنية متحركة وغير ثابتة مما فرض على الأردن سلوك سياسات خارجية، و«داخلية»، متحركة باستمرار وحيث إنه اضطر، ولأسباب وطنية وقومية ودينية واجتماعية، لاستقبال عدد من الهجرات الفلسطينية كانت أولها هجرة عام 1948 وثانيها هجرة عام 1967 وهذا بالإضافة إلى هجرة لاحقة من قطاع غزة وهجرة هائلة وكبيرة من «الشقيقة» سوريا ومن العراق ومن ليبيا ومن اليمن أيضاً ومن باكستان بعد حرب انفصال جزئها الشرقي عن جزئها الغربي الذي أصبح اسمه بنغلاديش.
إنَّ جغرافية الأردن جعلت سوريا تجاوره من الشمال، والعراق يجاوره من الشرق، والمملكة العربية السعودية من الجنوب، ومصر من الجنوب الغربي، وهذا بالطبع وفقاً لما كان قاله نابليون قد جعل السياسة الأردنية متأثرة بكل هذه العوامل وجعل المسؤول الأردني الأول، الذي هو الآن الملك عبد الله بن الحسين، قبْل سلوك أي سياسة خارجية وإقليمية أن يأخذ بعين الاعتبار «الإملاءات» الجغرافية للمملكة الأردنية الهاشمية.
وهنا ولأن قول الحقيقة ضروري فإن صاحب القرار في الأردن مضطر إلى مراعاة إملاءات جغرافية الأردن مع فلسطين ومع إسرائيل ومع الشقيقة الكبرى مصر ومع المملكة العربية السعودية ومع سوريا ومع لبنان على اعتبار التأثيرات الجغرافية المتبادلة في هذه المنطقة كلها.
وكذلك فإنه لا بد من الاعتراف بأن «جغرافية» الأردن مع الشقيقة سوريا لم تكن مريحة على الإطلاق، فقد بقي الجيش السوري «يمارس» اقتراباً استفزازياً في اتجاه الحدود الأردنية؛ حيث وصلت طلائعه في بعض الأحيان إلى مدينة إربد (عام 1970) وفي أحيان أخرى إلى مناطق تلامس العاصمة عمان من الجهة الشمالية. وهذا وللأسف تكرر مرات كثيرة وذلك مع أن الجيش الأردني لم يعبر الحدود السورية إلاّ مرة واحدة كانت في عام 1973 دفاعاً عن دمشق التي كانت مهددة باحتلال الإسرائيليين الذين كانوا احتلوا هضبة الجولان في حرب يونيو (حزيران) عام 1967.
إنه لا ضرورة للاسترسال في هذا المجال الذي لا علاقة للشعب السوري به، فهذا الشعب والشعب الأردني شعب واحد، ولعل ما لا يعرفه البعض هو أن معظم رؤساء الحكومات الأردنية السابقة من أصول سورية، وأن اقتصاد الأردن في البدايات وربما حتى الآن في أيدي الأردنيين من أصول شامية وحمصية وحلبية، وهذا ينطبق على معظم مكونات الدولة؛ بما في ذلك في بعض الأحيان الأجهزة الأمنية.
أما بالنسبة للعراق فإن المعروف أن الأردن أقام معه، عندما كان فيصل الثاني ملكاً، وحدة كانت واعدة بالفعل، لكن تلك الوحدة قد تم اغتيالها وللأسف بانقلاب عسكري قاده جنرالان هما عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف ما لبثا أن تم تثقيب صدريهما برصاص أحد الانقلابات اللاحقة، ثم وإن المعروف أيضاً أن الجيش العراقي قد جاء إلى الأردن مرات عدة؛ أولاها في عام 1948 للتصدي للاحتلال الإسرائيلي الزاحف على فلسطين، وثانيتها عام 1967 حيث رابط في الأراضي الأردنية دفاعاً عنها ولسنوات طويلة.
ويقيناً إن هذا ينطبق على المملكة العربية السعودية؛ فالجيش السعودي كان دائماً وأبداً حاضراً في الأردن وبخاصة في الأوضاع والظروف الصعبة. وهكذا ولأن الحقائق يجب أن تقال فإنه لا بد من التأكيد على أن الأشقاء السعوديين كانوا دائماً وأبداً المبادرين إلى الوقوف إلى جانب أشقائهم الأردنيين وبكل شيء وبخاصة المجالات الاقتصادية.
أما بالنسبة للشقيقة الكبرى مصر فقد كانت ولا تزال «جغرافية» الأردن و«جغرافيتها» تمليان على الأردنيين والمصريين مواقف موحدة. وهنا وفي هذا المجال فإنه عليّ أن أكشف سراًّ؛ وهو: أن عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف عندما كانا على رأس الجيش العراقي في الأردن قد ذهبا إلى «أحد» رؤساء حكومات منتصف خمسينات القرن الماضي الأردنية وطلبا منه أن يقوم بانقلاب عسكري بمساندتهما ليقوما لاحقاً بالانقلاب الذي كانا قد قاما به في العراق في عام 1958 ضد الملك فيصل الثاني. لكن الرئيس جمال عبد الناصر عندما ذهب إليه رئيس وزراء الأردن هذا من دون علم الملك حسين ليفاتحه بأمر هذا الانقلاب كان جوابه قاطعاً في رفض هذا العرض، وقال إن مثل هذا الانقلاب العسكري سوف تستغله إسرائيل لتحتل الضفة الغربية والضفة الشرقية أيضاً.