تمديد معرض «كريستيان ديور... مصمم الأحلام» في لندن

عندما قرر متحف «فيكتوريا آند ألبرت» اللندني احتضان معرض «كريستيان ديور... مصمم الأحلام»، كان المسؤولون يعرفون تماماً أنه سيكون من المعارض الناجحة، لكنهم لم يتوقعوا حجم الإقبال عليه، عندما حددوا نهايته في 14 من شهر يوليو (تموز) المقبل. فبعد 19 يوماً فقط على افتتاحه، نفدت كل البطاقات، وانهالت الطلبات على المزيد، الأمر الذي دفع المسؤولين إلى تمديده إلى بداية شهر سبتمبر (أيلول) المقبل.
ولا يختلف اثنان على أن المعرض لخص مسيرة طويلة من الإبداع، تكاثفت فيها كل عناصر الابتكار والتاريخ والفن والحلم. فالمتحف لم يتأخر عن عرض أشهر الفساتين التي صممتها الدار، بعضها تم استعارته للمناسبة من أصحابها من نجمات المجتمع والفن، وبعضها الآخر من أرشيفها الخاص. ومع ذلك، لا يمكن القول إن سبب الإقبال على المعرض يقتصر على قراءة تاريخ الموضة من خلال المصممين الذين تعاقبوا عليها، وتركوا بصماتهم على أسلوبها، من المؤسس كريستيان ديور إلى الإيطالية ماريا غراتزيا تشيوري. فأهميته تعود أيضاً إلى ما تثيره الدار من إبهار لم يخف وهجه رغم مرور عقود على تأسيسها. فما نجح فيه كل مصمم تسلم قيادتها الفنية أنه أضاف إليها، وطورها بما يتلاءم مع تغيرات العصر، من دون إلغاء ماضيها. وهكذا، بقيت ابنة عصرها، ومنصة جيدة لنبض الشارع وتغيراته، الأمر الذي جعلها أيضاً مؤثرة عليه، بدليل انتعاش التنورة المستديرة في السنوات الأخيرة. فهي من أساسيات «ذي نيو لوك»، التي أطلقها كريستيان ديور أول مرة في عام 1947. لم يذبل جمالها، وها هي المصممة ماريا غراتزيا تبيعها مؤخراً لجيل الشابات من التول، ومع أحذية رياضية أدخلتها كل المناسبات.
غني عن القول أن المحلات الكبيرة والمصممين على حد سواء التقطوا شعبيتها، واستنسخوها بأسعار متباينة. الصغيرات نسقنها مع أحذية رياضية أضفت عليها حيوية شبابية، والشابات مع أحذية عسكرية لإطلالة ترقص على إيقاعات الروك آند رول، بينما نسقتها الناضجات مع أحذية بكعوب عالية لمزيد من الأنوثة والأناقة. في كل الأحوال، أكدت هذه التنورة أنها لكل الأذواق والأعمار. والزائر إلى متحف «فكتوريا آند ألبرت» لا بد أن يشد انتباهه أن تأثير الدار على أذواقنا عبر سبعة عقود تقريباً لا يزال قوياً، لم يأخذ منه الزمن شيئاً.
-- محطات تاريخية
- في عام 1947، ابتكر السيد كريستيان ديور ما أصبح يُعرف بـ«ذي نيو لوك»، وهي إطلالة كانت ثورية في ذلك الوقت، تتمثل في تنورات مستديرة وخصر مشدود وجاكيتات محددة على الجسم. وتقول القصة إن كارميل سنو، رئيسة تحرير مجلة «هاربرز بازار»، النسخة الأميركية، هي التي أطلقت على الإطلالة «ذي نيو لوك»، عندما حضرت أول عرض له، وقالت له مهنئة: «فساتينك تتميز بمظهر جديد». وصف التقطته كل وسائل الإعلام، ليصبح لصيقاً بمصمم أحدث ثورة فيما يخص الموضة، بعد التقشف الذي عاشته المرأة خلال الحرب العالمية الثانية وحرمها أنوثتها.
- في عام 1957، توفي فجأة، فتم تعيين شاب لا يتعدى عمره الـ21 عاماً خليفة له. هذا الشاب كان إيف سان لوران. كانت تصاميمه في غاية الأنوثة كذلك، لكنه كان يختلف عن المؤسس في أنه حرص فيها على أن تكون مريحة بعيدة عن الخصر. كان هو الآخر يمهد لثورة نسوية تحتفل بامرأة جديدة تتأهب للتغيرات الاجتماعية التي شهدتها الستينات.
- لم يُطول إيف سان لوران في الدار لأنه طُلب للتجنيد في الستينات، فتسلم المشعل منه مارك بوهان. كان القاسم المشترك بينه وبين المؤسس وسان لوران هو تلك الأنوثة والدقة في التصميم والتنفيذ، لكنه اختلف عن سابقه سان لوران من ناحية الجرأة. كانت تصاميمه أكثر تحفظاً بالمقارنة، وحققت ما كان مطلوباً منه. فعندما قدم تشكيلته في عام 1961 للربيع والصيف، استقبلتها المرأة بالأحضان. طلبت منه النجمة إليزابيث تايلور مثلاً 12 فستاناً منها.
- في عام 1989، جاء دور مهندس الموضة الإيطالي جيانفرانكو فيري لكي يقودها. كان أول مصمم غير فرنسي يتولى هذه المهمة، وهو ما أثار حفيظة الفرنسيين واستغرابهم آنذاك، فكيف لإيطالي أن يتسلم مقاليد صرح من صروح فرنسا؟ لكنه سرعان ما أسكتهم. أتحفهم بتصاميم مفعمة بالأنوثة، بعضها كان على شكل قفاطين منسابة، وبعضها مصمماً بأشكال هندسية محسوبة.
- في عام 1996، انتقلت المهمة إلى بريطاني شاب، اسمه جون غاليانو. قال منذ أول لقاء له إن مهمته هي زيادة جرعة الجاذبية فيها. وبالفعل، طوال سنواته نجح في دمج الرومانسية والأنوثة بشكل غير مسبوق. قد يكون سريالياً أو مسرحياً، لكنه أثار خيال العالم، وأغراهم بدخول عالم «ديور» الفريد. ما نجح فيه بتصاميمه الفخمة وأشكالها الهندسية وشطحاته الخيالية أنه أضفى على عالم الموضة عنصر الإبهار والترقب.
- في عام 2012، خلفه البلجيكي راف سيمونز الذي جاء من خلفية مختلفة تماماً، فهو من المدرسة البلجيكية التي لا تميل إلى الفانتازيا على الإطلاق. لم تكن نظرته درامية أو مسرحية بقدر ما كانت حداثية تميل إلى البساطة. ما شفع له أنه نجح في استقطاب شريحة الشابات إلى خط الـ«هوت كوتير»، بعد أن أنزله من بُرجه العاجي وقربه من الناس.
- بعد 70 عاماً على تأسيس الدار، وبعد 6 مصممين رجال، دخلت ماريا غراتزيا تشيوري الدار الفرنسية، كأول مصممة في تاريخها، وكأن الدار تتحسب لثورة مماثلة لتلك التي شهدتها في الستينات. وبالفعل، منذ أول عرض لها، أكدت ماريا غراتزيا أنها أهل لها، حيث قدمت مجموعة من الـ«تي - شيرتات» البسيطة، كتبت عليها شعارات نسوية تُؤذن بعهد جديد. ولا تزال حتى الآن تتبنى هذه الحركة النسوية في شعاراتها وتصاميمها، لكن اللافت أيضاً أن تصاميمها أكثر شبابية مما كانت عليه الدار من قبل. وقد صرحت المصممة نفسها بأنها تقرأ تطورات العصر من خلال عيون ابنتها الشابة. البعض رحب بالأمر، والبعض الآخر ينتقدها، لأن الخط بين الأزياء الجاهزة والأزياء الراقية، أي الـ«هوت كوتير»، أصبح رفيعاً للغاية، إن لم نقل إنه ألغي بنسبة عالية. بيد أن أرقام المبيعات تؤكد أنها تحقق المطلوب، بدليل أن كل حقيبة يد تطرحها تشتهر بسرعة. يساعدها على ذلك الحملات المبتكرة التي تقوم بها، وأيضاً شخصيتها المنفتحة على العالم، وعلى كل من سبقوها من مصممين. في عرض «الكروز» الأخير مثلاً، ألقت بتحية كبيرة لواحد من مصممي الدار، الراحل إيف سان لوران، بإقامتها عرض «الكروز» لعام 2020 في مراكش، المدينة التي عشقها، وبادلته العشق ذاته. وليس من المبالغة القول إنه كان أجمل عرض تقيمه الدار منذ زمن طويل، وستبقى أصداؤه تتردد طويلاً.