... وإيران لا تريد الحرب

لا أحد يريد الحرب، هذا موقف دول الخليج جميعها، إضافة إلى إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي حشد قوات وتجهيزات عسكرية ضخمة في الخليج وبالقرب من المياه الإيرانية تأهباً لعمل عسكري. الحقيقة أنه حتى إيران لا تريد الحرب، فحكومة طهران تواجه ضغطاً داخلياً هائلاً بسبب الأزمة الاقتصادية، وميليشياتها التي كانت تنفق عليها لخوض معاركها بالنيابة في كل من لبنان وسوريا باتت تستجدي الناس تقديم صدقاتهم إليها. فإن كانت إيران لا تريد الحرب فلماذا ترتكب أعمالاً استفزازية تهدد أمن المنطقة وأمن الملاحة الدولية؟
إيران في كل تاريخها في المنطقة العربية حافظت على ثبات استراتيجيتها خلال التفاوض بالنَفَس الطويل. في لبنان مثلاً، أوعز نظام طهران لـ«حزب الله» احتلال بيروت في مايو (أيار) 2008، وكانت أزمة مريرة عاشها اللبنانيون وهم يشعرون أن قرار سلامتهم أو خطرهم يأتي من طهران، ومع أن مظاهرها العسكرية انتهت إلا أن إيران عززت مكانة «حزب الله» كقوة سياسية بل وصانع قرار بالدرجة الأولى. واستطاعت إيران ممارسة الدور نفسه بين الفلسطينيين وكانت حركتا «حماس» و«الجهاد الإسلامي» وكيلتيها في غزة. انشقّ الصف الفلسطيني منذ عام 2007 وحتى اليوم، نتيجة دعم إيران للحركتين، وتفرض السياسة الإيرانية نفسها بأنها صاحبة القرار في الشأن الفلسطيني، وأن عودة التئام الشمل لن يتم ما دامت تتعهد نصف الفلسطينيين بالرعاية. في سوريا تكرر المشهد، وفي اليمن كذلك، لولا أن هذا الأخير واجهت فيه إيران قوة عسكرية ليست بالهينة أفشلت مخططاتها مع جماعة الحوثي اليمنية المتطرفة.
موقف إيران واضح بتصريحات مسؤوليها: «لن تنعم المنطقة بالسلام والاستقرار ما دامت إيران لا تنعم بهما». الحرب الاقتصادية على نظام إيران هي الحرب الفعلية التي تؤثر عليه وليست الضربات العسكرية بالدرجة الأولى. هذه حقيقة الوضع الإيراني وسبب استنفارها. إيران لا تدفع الولايات المتحدة إلى الحرب بل تهدف إلى ضرب أمن المنطقة الاقتصادي ليعاني الجميع كما تعاني فيتحسن موقفها التفاوضي بخصوص العقوبات. قبل أيام شددت واشنطن العقوبات عليها وضمّنتها شركات للبتروكيماويات ومنافذ بيعها في أوروبا وآسيا، بعد فترة قصيرة من تصفيرها لتصدير النفط الإيراني الذي كان يبلغ نحو 3 ملايين برميل نفط يومياً في عام 2016 ووصل حتى نصف مليون برميل. واشنطن تدق أركان النظام واحداً تلو الآخر من خلال العقوبات، والإبقاء على هذه العقوبات هو الفعل الأكثر إيلاماً. طهران قررت التعرض للملاحة في مضيق هرمز كما كانت تتوعد مراراً وتكراراً، كان واضحاً منذ سنوات أن مضيق هرمز هو شريان الحياة لهذا النظام، واليوم تتجسد مخاوفها من خلال إلحاق الأذى بكل الدول المعتمدة على المضيق خصوصاً في آسيا. وقد حققت نجاحات مرحلية بتعديها على الناقلات التي تحمل السلع من أهمها النفط، فارتفعت نسبة التأمين على السفن من 5 إلى 15%، وقفزت أسعار النفط أكثر من 2%، وأصبح ملاك شركات النقل الكبرى يخشون على سفنهم من الحركة في مياه الخليج. تعيد إيران فرض نفسها باستفزاز واشنطن وحلفائها عبر وكلائها في اليمن الذين استهدفوا المملكة العربية السعودية والإمارات العربية أكثر من مرة. كل ما أرادته إيران وخططت له حصل، إنما التحدي الحقيقي هو إلى متى تظن إيران أن زعزعتها لأمن الملاحة في الخليج سيمنحها الوقت حتى ترى حسابات الانتخابات الأميركية تصب في صالحها؟ حتى أصدقاؤها الأوروبيون تخلّوا عنها وهم الذين قدموا التطمينات بأنهم ماضون في الالتزام بالاتفاق النووي الموقّع معها رغم انسحاب الولايات المتحدة منه. وزير خارجية ألمانيا الذي زار طهران قبل أيام لتهدئة الأجواء، قال صراحة إن الأوروبيين سيبذلون ما يستطيعون لضمان حصول إيران على عوائد اقتصادية، لكنهم في الوقت نفسه لا يستطيعون عمل المعجزات.
المخاطر التي تواجهها المنطقة هي المزيد من التصعيد الإيراني ضد التجارة العالمية في مياه الخليج، إضافةً إلى استمرار استهداف المدن السعودية، لكن اللعب على عامل الوقت أمر مهم في حسابات الربح والخسارة. من المهم توحيد مسارات الناقلات البحرية وتأمينها بالمزيد من الحماية لتقليل نسبة المخاطر، وعودة الاطمئنان للسوق، في الوقت الذي تتمسك فيه واشنطن بالعقوبات والتضييق على الشركات والأفراد خصوصاً ذوي العلاقة بـ«الحرس الثوري» الإيراني. الحفاظ على هذا الاتزان سيزيد من الضغط على نظام ولاية الفقيه داخلياً، ويضعف أدواتها المسلحة في المنطقة. صحيح أن الضربات العسكرية إنْ حصلت ستكون موجِعة لإيران وميليشياتها لكنها ستخلّف تداعياتٍ المنطقةُ في غنى عنها في الوقت الراهن.