السودان... التنازلات المحسوبة تمنع المحظور

السودان في مفترق طرق مليء بالتحذيرات والاحتمالات غير السارة. التحذيرات من الوقوع في مواجهات بين القوات المسلحة الرسمية وبين المواطنين بدأت تشق طريقها على ألسنة كثير من المسؤولين المعنية بلادهم بما يجرى في السودان. آخر التحذيرات جاء على لسان مساعد وزير الخارجية الأميركي إلى أفريقيا تيبور ناجي، مشيراً إلى 4 مشاهد محتملة، كعودة نظام البشير المخلوع، واستمرار حكم المجلس الانتقالي، والوقوع في فوضى غير مُسيطر عليها، أو الاتفاق على عملية انتقالية بين المجلس الانتقالي و«قوى الحرية والتغيير»، تتوافق مع خريطة الاتحاد الأفريقي والوساطة الإثيوبية. والاحتمال الأخير حسب المسؤول الأميركي هو المشهد المستقبلي الأفضل، مقارنة بالمشاهد الثلاثة الأخرى، لأنها الأكثر سوءاً.
الاهتمام بما يجري في السودان وخروجه من عنق الزجاجة، الذي يمر به الآن، له ما يبرره لدى كثير من الدول الأفريقية والعربية والقوى الدولية، فشرق أفريقيا ليس بحاجة الآن إلى حالة أخرى من عدم الاستقرار أو الفوضى أو الحرب الأهلية، فهذه كلها حالات إن بدأت فلن يستطيع أحد التحكم في مساراتها الدموية اللاحقة، ولا في مداها الزمنى، أو تأثيراتها على المحيط الإقليمي الأوسع، فضلاً عن جاذبية كل منها لاستقدام تدخلات خارجية تعمل لحسابها الخاص، قبل أن تعمل لحساب السودانيين أنفسهم.
الأمر الوحيد المُرحب به هو أن تكون هناك وساطة موثوق بها، ومدعومة إقليمياً ودولياً يمكنها أن تفكّ العقد المستحكمة بين الأطراف السودانية المعنية، وهي تحديداً المجلس الانتقالي و«قوى الحرية والتغيير»، وأن تساعدهما في وضع خريطة طريق، يلتزمان فيها بمرحلة انتقالية محددة المسارات والمسؤوليات، تحقق طموحات الشعب، وتنتهي إلى تأسيس نظام ديمقراطي تعددي مقبول من الجميع. وكان قرار تعليق الاعتصام المدني الشامل الذي اتخذته «قوى الحرية والتغيير» بعد لقاءات مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، مؤشراً في نظر البعض على أن الدور الإثيوبي بدأ يؤتي ثماره. ورغم أهمية الخطوة ورمزيتها بالنسبة للوساطة الإثيوبية، فلم تتحرك الأمور أبعد من ذلك. وما زال الاستقطاب السياسي والتباعد هو سيد الموقف. والمرجح أن تعليق الاعتصام المدني لم يبتعد كثيراً عن إدراك منظمي الاعتصام المدني أنه سلاح ذو حدين؛ وأن استمراره لفترة طويلة سوف يؤدي إلى تغيير حاد في توجهات المواطنين، نظراً لما ينطوي عليه هذا الأسلوب الاحتجاجي من مصاعب جمة للحياة اليومية لكل السودانيين، فضلاً عن سد منافذ الرزق أمام هؤلاء البسطاء، وهم كثر، والذين يعيشون من حركة الأسواق المعتادة. فضلاً عن أن كثيراً من الرموز السياسية عبّرت عن معارضتها استمرار الاعتصام المدني، لأنه يضر ولا يفيد.
مثل هذه الوساطات الدولية المقبولة أمر معهود في حالات الاستقطاب السياسي الشديد، وحالة عدم الثقة بين الأطراف المعنية، وهما أمران مُسيطران على الوضع السياسي والأمني السوداني، ولا سيما في ضوء النتائج الدامية التي انتهت إليها عملية فض الاعتصام حول مقرات القيادة العسكرية ليلة الثالث من يونيو (حزيران) الحالي، والتي مثّلت نقطة فارقة بين ما قبلها وما بعدها. وشكّلت أيضاً أسباباً إضافية لدى «قوى الحرية والتغيير» لوضع شروط إضافية في التعامل مع المجلس الانتقالي، أبرزها لا مفاوضات مباشرة، والدعوة إلى تحقيق دولي مستقل حول أحداث الثالث من يونيو، والتمسك بنقل السلطة إلى حكومة مدنية، ومحاسبة المتورطين في عملية فض الاعتصام، وأولوية عودة خدمات الإنترنت المتوقفة حالياً.
في المقابل، يطرح المجلس الانتقالي، علناً ومن خلال المبعوث الإثيوبي، العودة إلى المفاوضات المباشرة، وإتمام الاتفاق على نقل السلطة للمدنيين، والاستفادة مما تم التوصل إليه مبدئياً في عدة نقاط، وتشكيل مجلس سيادي برئاسة قائد عسكري، ورفض أي تحقيق دولي والاكتفاء بتحقيق وطني مستقل، وعدم نقل المفاوضات مع «قوى الحرية والتغيير» إلى خارج السودان، وتحديداً إلى أديس أبابا، والإصرار على أن تظل في الداخل. وثمة غموض نسبي بالنسبة لهذه النقطة تحديداً، وقد أشارت مصادر المجلس الانتقالي إلى أن هذا العرض قدّمه المبعوث الإثيوبي، وأن «قوى الحرية والتغيير» وافقت عليه، لكن الأخيرة نفت الأمر.
وفي السياق ذاته، يرى المجلس العسكري أن لديه خيارات أخرى، في حال تعثر المفاوضات مع «قوى الحرية والتغيير»، مثل تشكيل حكومة انتقالية مدنية، والدعوة إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية، ولكنه يفضل أن يتم بالتوافق السياسي. ويُعتقد أن هذا الطرح نوع من الضغوط السياسية المعتادة في اللحظات التي يتعثر فيها التفاوض بين أطراف تدرك أنه لا يستطيع بعضها إلغاء بعض، وتدرك أيضاً أن الحلول الأحادية محكوم عليها بالفشل.
الوضع على هذا النحو يعكس جموداً سياسياً، يُفترض أن الوساطات - ولا سيما المدعومة من المنظمات الإقليمية الكبرى كالاتحاد الأفريقي أو منظمة التنمية الحكومية «الإيقاد»، والسودان عضو بارز في كليهما - تعمل على حلحلته بخطوات إقناعية للطرفين، لإبداء مرونة وقبول تنازلات محسوبة، والتوصل إلى نقاط تبني المستقبل وتحاصر احتمالات الفوضى المتصورة. ومع الأخذ في الاعتبار الجوانب النفسية الجماعية الناتجة عن الدماء البريئة التي سالت، والمتصور أنها نتيجة أخطاء تطبيقية جسيمة لمن نفذوا أمر فض الاعتصام، يمكن قبول تمسك «قوى الحرية والتغيير» بعدم التفاوض المباشر لبعض الوقت، مع تعزيز عملية التواصل عبر الوساطة الأفريقية الإثيوبية، إلى أن تنضج خطة توافقية شاملة، بما فيها محاسبة المخطئين وتطبيق مبادئ العدالة الانتقالية وإقرار تعويضات مناسبة مادية ومعنوية للشهداء، وضمانات لعدم تكرار ما حدث مستقبلاً. وفي حال الوصول إلى مثل هذه الخطة الشاملة في مدى زمني قصير، يصبح التواصل المباشر بين المجلس الانتقالي و«قوى الحرية والتغيير» مسألة طبيعية لتنظيم نقل السلطة بعد الاتفاق على أسسها ومبادئها كاملة.
هذه الصيغ من الحلول تفترض ضمناً وصراحة أمرين متكاملين؛ أولهما أن أي صيغة لإقصاء قوة رئيسية أو مؤسسة وطنية في المجتمع أو الدولة من العملية الانتقالية وبناء نظام جديد هي صيغة محكوم عليها بالفشل، لأنها تعني وضع البلاد على منصة الحرب الأهلية. والصحيح هو التوافق والقبول المتبادل من الكل للكل. والمبدأ الثاني وهو امتداد للأول، يتعلق بالتوقف عن الممارسات التحريضية وعمليات التشويه المعنوي التي يمارسها البعض ضد البعض الآخر. وكلا الأمرين هما أساس بناء الثقة.
ومع الوضع في الاعتبار عامل الوقت، وأنه في غير صالح أحد، إذا استمر الجمود السياسي على ما هو عليه، يصبح الأفضل للجميع أن يخفف كل طرف من شروطه، وأن يبحث عن التوافقات والمشتركات، وليس الخلافات والمشكلات.