إرهابيون أم مسلحون أم معارضون؟

لا يكاد يمر يوم من دون أن نشهد اتهامات وانتقادات تطال عدداً من وسائل الإعلام في مناطق مختلفة من العالم، ومن بين أكثر الانتقادات التي تتكرر في ذلك الصدد تلك التي تتعلق بتوصيف ما يقع من أحداث العنف السياسي، وما إذا كانت تلك الأحداث يجب أن توصم بـ«الإرهاب» من عدمه.
في هذا الإطار، سنجد بعض الغربيين ناقمين لأن «إرهاب 11 سبتمبر (أيلول)» يوصف في عدد من وسائل الإعلام الدولية المرموقة بأنه «هجمات»، وأن «الإرهابي» أسامة بن لادن يُقدم بوصفه «زعيم تنظيم القاعدة»، وأن تنظيم «داعش» الذي يجب أن يوصف بأنه «متوحش وهمجي» يُقدم على أنه «تنظيم داعش».
وفي المقابل، لا يعدم الشرقيون أسباباً لكيل الانتقادات لتلك الوسائل نفسها؛ وخصوصاً عندما تفرط في التزامها الإجرائي بمقتضيات الحياد، فتصف حادثة «كرايستشيرش» في نيوزيلندا بـ«الهجوم على المسجدين»، وتقدم مرتكبها باعتباره «منفذ الهجوم»، من دون أن تُشفي غليل المكلومين من أبناء الشرق المسلم، وتصفه بأنه «إرهابي مسيحي مجرم».
تلك إذن معركة لا تتوقف رحاها أبداً؛ وهي معركة سياسية وليست مهنية بطبيعة الحال، ومع ذلك فإن الثمن الأكبر فيها يدفعه الصحافيون وبعض المؤسسات التي يعملون فيها، والتكلفة الأفدح تقع على عاتق حرية الصحافة ومعدل الثقة فيها.
عندما يقدم الصحافيون الأخبار والمعلومات للجمهور فإنهم يكونون مضطرين باستمرار لاستخدام التنميط (Labelling)، أي «نسب صفات وأدوار دائمة لأسماء العَلَم والعمليات»، مثل: ارتفاع «مفاجئ» في معدل التضخم، أو الفريق حسم اللقب في مباراة «مثيرة»، أو نائب «معارض» يقدم استجواباً.
من دون نسب الصفات والأدوار الدائمة لأسماء العَلَم والعمليات يفقد الخطاب الخبري كثيراً من وضوحه، ولا يمكنه القيام بدوره في الإبلاغ والشرح، وعندما يتم التلاعب في هذه الصفات والأدوار، تتغير المعاني، وينحرف الجمهور عن الحقائق، وتتبدل أفكاره بدرجة حادة وكبيرة.
بسبب تلك النتائج الخطيرة لعملية التنميط، فإن الدول والحكومات وجماعات المصالح والأفراد يبذلون جهداً كبيراً لتجنب الإضرار بمصالحهم السياسية والمادية والمعنوية، عبر تقديم تنميطات مسيئة، أو من خلال حجب الأوصاف التي تخدم تصوراتهم وأهدافهم.
لذلك، ستحتج دولة لأن وسائل إعلام معينة وصفت قتلاها في نزاع تخوضه بأنهم «ضحايا» وليسوا «شهداء»، وستعترض جماعة لأن إحدى الصحف الكبرى قالت إنها «إرهابية» بينما هي فقط «مصنفة إرهابية من قبل عدد من الدول»، وستنتقد حكومة وسائل إعلام نافذة لأنها وصفت استهداف عشرات المصلين في أحد مقار العبادة بأنه «هجوم مسلح» وليس «هجوماً إرهابياً»، أو أن «الإرهابي القاتل» الذي تم إيقافه من قبل السلطات، يوصف بأنه «معارض» أو «متمرد» أو «منشق».
لا يمكن القول إن هناك تعريفاً محدداً متفقاً عليه للإرهاب السياسي، رغم وجود مئات المحاولات الجادة لإدراك مثل هذا التعريف.
يُعرّف الباحث بول ويلكنسون الإرهاب السياسي بأنه «الاستخدام المنتظم للعنف أو التهديد به لتحقيق غايات سياسية، على أن يكون مع سبق الإصرار والترصد، ومستهدفاً لأكبر عدد ممكن من الضحايا، ومنطوياً على أهداف عشوائية ورمزية بما في ذلك المدنيون، ومستخدماً العنف بشكل أساسي، وليس حصرياً بالضرورة، للتأثير في سلوك الحكومات والمجتمعات المستهدفة»، وهو أحد أهم التعريفات وأكثرها شمولاً في ذلك الصدد.
ومع ذلك، فإن هذا التعريف مثلاً قد يؤدي إلى اعتبار بعض أعمال «المقاومة» ضد قوى الاحتلال، أو «الضغط» للحصول على «حقوق» بعض الأقليات في مواجهة «حكومات قاتلة ومستبدة»، من أعمال الإرهاب. كما أن هذا التعريف أيضاً لا يتحدث سوى عن الفعل ذاته، متجاهلاً السياق الذي أتى فيه والأفعال السابقة عليه.
لقد خلص بعض الباحثين والخبراء إلى صعوبة تعميم وصف «إرهابي» أو منعه تماماً في وسائل الإعلام استناداً إلى تعريفات نظرية وإجرائية، وأوصوا بأن «تتم دراسة كل حالة على حدة».
لكن بعض وسائل الإعلام الكبرى قررت ألا تستخدم هذا الوصف من تلقاء نفسها، وفي سبيل ذلك تتعرض كثيراً للضغوط، وتواجه أحياناً اتهامات بـ«دعم الإرهاب» أو «العمالة والخسة».
ومما يؤكد الطبيعة السياسية (غير المهنية) لتلك المعركة، أن بعض الدول الأكثر انغلاقاً لا تتورع عن ملاحقة وسائل الإعلام الكبرى، التي تعمل في سياقات أكثر حرية وانفتاحاً، باتهامات حادة جراء استخدامها تنميطات معينة.
يجب على وسائل الإعلام الكبرى أن تحدد في أدلتها التحريرية مواقفها من استخدام توصيف «الإرهاب»، وعندما تفعل ذلك، فإن عليها عدم التراجع عن الالتزام بما قررته لنفسها، وعدم الكيل بالمكاييل المتعددة؛ خصوصاً عندما تقع الأحداث العنيفة على أراضي الدولة التي تنتمي إليها.
ومن جانب آخر، فإن هؤلاء الذين يلاحقون وسائل الإعلام لضمان استخدام أوصاف مواتية لمصالحهم السياسية لما يقع من أحداث، عليهم أن يكتفوا باستقصاء ما إذا كانت أفكارهم تُنقل وأقوالهم تُسرد بالطريقة الصحيحة، بدلاً من أن يضغطوا على الإعلام ليتأكدوا من أنه يتحدث بلغتهم ويفكر بطريقتهم.