عيون جديدة في الفضاء... أقمار صناعية مصغرة حول الأرض

يعمل علماء بجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) على استحداث تقنيات بحثية قائمة على بيانات الأقمار الصناعية المصغرة، ويرون في هذا المشروع إمكانات، خصوصاً في مجالَي علم المياه، والزراعة الدقيقة. إذ يغيِّر اختراع الأقمار الصناعية المصغرة المتخصصة، التي تسمى «كيوبساتس» (CubeSats)، من القدرة على مراقبة سطح الأرض، وعلى مراقبة تأثير الأنشطة البشرية في الكرة الأرضية.
إجمالاً تعاني بيانات الأقمار الصناعية التقليدية المستخدمة في الأبحاث، التي يجري تجميعها بشكل رئيسي من قِبَل وكالات الفضاء الحكومية، من بعض أوجه القصور. فهي عموماً إما توفر مستويات دقة مكانية عالية أحياناً - لكن صورها التفصيلية لا تُلتقَط إلا مرة واحدة كل أسبوعين – وإما تكون ذات دقة مكانية منخفضة غالباً، وحينئذٍ يمكن أن تضيع تفاصيل مهمة. أما أقمار «الكيوبساتس» المصغرة، فتعمل على تغيير ذلك النمط، بجمعها تفاصيل مكانية على مستوى المتر الواحد كل يوم عن سطوح التضاريس الأرضية.
بدوره، يقول ماثيو ماكَيْب، عالم المياه واختصاصي الاستشعار عن بُعد: «بالتأكيد لم أتوقع التخلُّص من أوجه القصور تلك في أي وقت قريب. فتصميم القمر الصناعي يستغرق عادة عدة سنوات من البحث في المستشعرات وتطويرها، ومن التفاوض مع وكالة الفضاء الحكومية والهيئات الممولة، قبل أن ترى أن مشروعك قد اختير للإطلاق. بعد ذلك ثمة احتمال لحصول خطأ في أثناء الإطلاق أو في أثناء الوضع في المدار، أو ببساطة، قد لا تحصل على البيانات التي تحتاج إليها»، وذلك وفق بيان صادر عن «كاوست» تلقته «الشرق الأوسط».
لكن التطورات الأخيرة في تكنولوجيا الأقمار الصناعية المصغرة يمكن أن تغير ذلك. فهذه الأقمار في حجم علبة الحذاء رخيصة الصنع والإطلاق نسبيّاً؛ فهي تُصنَع من مكونات ومستشعرات متوفرة تجاريّاً، وتُرسل إلى المدار إما كحمولة ثانوية وإما على متن صواريخ صغيرة قابلة لإعادة الاستعمال. وبعد الإطلاق، تدور تلك الأقمار المصغرة حول الأرض عند ارتفاعات تتراوح بين 350 و500 كيلومتر لمدة تتراوح بين بضعة أسابيع وأكثر من سنة، وتُرسِل بياناتها إلى الأرض (قبل أن تحترق في النهاية في أثناء عودتها ودخولها الغلاف الجوي للأرض).
ويوضح ماكَيْب أن هذا النوع من التكرار ذي الدقة العالية لم يكن متاحاً من الفضاء من قبل، ويضيف: «إنه ينطوي على إمكانية زيادة كفاءة أعمال على غرار إدارة الكوارث والاستجابة لها، وذلك بمراقبة جهود الإنقاذ وتوجيهها، أو إمكانية ملاحقة التغيرات البيئية، وذلك بتحديد الأنشطة غير المشروعة لإزالة الغابات في الأمازون على سبيل المثال. وإذا استطعنا رؤية المشكلات وتحديدها سلفاً، أو في أثناء حصولها، فيمكننا اتخاذ إجراءات لمعالجتها».
وقد أطلق فريق ماكَيْب في الآونة الأخيرة مشروعاً متَّسقاً مع «رؤية للمملكة العربية السعودية 2030»، يستعمل بيانات من أقمار «الكيوبساتس» المصغرة وغيرها من الأقمار الصناعية من أجل المساعدة في مراقبة مشكلات أمن المياه والغذاء. فنظراً لاستخدام كميات هائلة من مصادر المياه العذبة بالمملكة في الزراعة، سوف يستخدم الفريق بيانات تلك الأقمار لمراقبة صحة المحاصيل ومعدلات الري، بغية رسم صورة واضحة لاستخدام المياه داخل البلاد. وسوف يساعد ذلك على توجيه السياسات المستقبلية الخاصة بأمن المياه.
وعلى نحو مشابه، يمكن تحليل حالة أمن الغذاء الكُلِّية باستعمال بيانات من تلك الأقمار المصغرة. ووفقاً لما بيَّنه فريق ماكَيْب أخيراً، فمن الممكن الآن تكوين صور يومية عالية الدقة للحقول المنفردة، بدقة تصل إلى ثلاثة أمتار. ومن هذه الصور، يمكن لتقنيات التعلُّم الآلي أن تقيِّم صحة المحاصيل المختلفة وحالتها، باستخدام قياسات من مثل مُعامل مساحة الورقة النباتية ومعدلات النَّتح. وهذا سوف يمكِّن من إجراء تنبؤات أكثر دقة للإنتاجيات المحتملة، ومن تحديد أمكنة المشكلات وأوقات نشوئها، متيحاً للمزارعين اتخاذ الإجراءات المناسبة.
ولفت ماكَيْب إلى أن تكنولوجيا الأقمار الصناعية المصغرة تُمكِّننا أيضاً من تحليل البيانات من أجل تحديد المحاصيل التي تُزرع في أمكنة معينة. في البلدان الأفريقية، على سبيل المثال، ثمة سجلات توضح ما يزرعه كل مزارع في قطعة أرضه الصغيرة. ويمكن إرسال هذه المعلومات إلى قواعد بيانات عامة، بغية المساعدة على معالجة مشكلات أمن الغذاء من خلال تعقُّب الإنتاج.
وتصنع أقمار «كيوبساتس» المصغرة وتُطلقها حاليّاً شركات تجارية في المقام الأول، رغم أن وكالات الفضاء، ومنها وكالتا الفضاء الأميركية والأوروبية، تموِّل أيضاً بعض مبادرات الأقمار الصناعية المصغرة والنانوية.
ورغم أن معظم تلك الأقمار المصغرة لا يحمل مكونات بحثية مرتفعة التكلفة تجعل المعايرة مشكلة، فإن الفريق البحثي في «كاوست» يعمل على تطوير طيف مبتكر من تقنيات التعلُّم الآلي والنمذجة، التي توفر بيانات بحثية جيدة لمراقبة الأرض.
ويرى ماكَيْب أن الأقمار الصناعية المصغرة قادرة على تقديم أفكار جديدة في علوم البيئة، إضافة إلى توفير منصة لاستعراض مستشعرات وتكنولوجيات جديدة مبتكرة للفضاء. وباستغلال هذه المنظومات البازغة، يمكن قريباً تطبيق استراتيجيات تعالج بعض التحديات الرئيسية في الغذاء والمياه والبيئة على مستوى العالم.