أمين الريحاني في بغداد

بزغ في العشرينات الأديب الشهير أمين الريحاني. كان رائداً من رواد القومية والوحدة العربية. زار سائر بلدان الشرق الأوسط وكتب مذكراته عن مشاهداته في كتابه الشهير «ملوك العرب». دعاه الملك فيصل الأول لزيارة العراق فلبى الدعوة وقصد بغداد عام 1922. بالطبع أقيمت له حفلات عديدة في تكريمه، ولكن حفلاً خاصاً أحدث ضجة كبيرة عندما أقام المعهد العلمي وليمة كبرى حضرها الملك نفسه.
خلدت تلك الحفلة بسبب القصيدة التي ألقاها الرصافي. استهلها بالترحيب بالضيف:

إن العراق بعرضه وبطوله
وبرافديه وباسقات نخيله
يهتز مفتخراً بمقدم ضيفه
ويبش مبتسماً بوجه نزيله

ولكن الشاعر سرعان ما انتقل إلى نغمة خطيرة عندما وجّه كلامه للضيف وقال:

أأمين جئتَ الى العراق لكي ترى
ما فيه من غرر العلى وحجوله
عفواً فذاك النجم أصبح آفلاً
والقوم محتربون بعد أفوله
أأمين لا تغضب عليَّ فإنني
لا أدعي شيئاً بغير دليله
من أين يرجى للعراق تقدم
وسبيل ممتلكيه غير سبيله
لا خير في وطن يكون السيف
عند جبانه والمال عند بخيله
والرأي عند طريده..
والعلم عند غريبه.. والحكم عند دخيله

أزعجت الكلمة الأخيرة «الحكم عند دخيله» الملك فيصل، إذ اعتبر أنه هو المقصود فيها، فكما نعلم، لم يكن من أبناء العراق. وكان خصومه كثيراً ما وصفوه بأنه دخيل على العراق والعراقيين، بيد أن أصدقاء الشاعر خفوا لإسعاف الموقف وشرحوا للملك أن المقصود بالدخيل الإنجليز.
تقبل الملك هذا التعليل بما اشتهر به من رحابة الصدر والروح السمحة وتجاوز الطعنة. ولكن الشاعر على العكس، تميز بروح الصلابة والتحدي. لم تمر غير أشهر قليلة حتى استأنف لهجته الهجومية، وعاد في هذه المرة إلى مهاجمة الملك فيصل صراحة كصنيعة للإنجليز في بيتين عنيفين قال فيهما:

لنا ملك تأبى عصابة رأسه
لها غير سيف التيمسيين عاصبا
وليس لنا من أمره غير أنه
يعدد أياما ويقبض راتبا

بالطبع لم ينصف الشاعر الملك فيصل رحمه الله الذي كان يعاني من ضغط الإنجليز من ناحية، وضغط الشعب من ناحية أخرى وقضى جل حياته يحاول التوفيق بين الطرفين. سمع الملك بذلك البيت الجارح. ومرة أخرى لم يتخذ أي إجراءات ضد الرصافي في إطار العيب والطعن، بل واصل التعامل مع الشاعر بنفس السماحة واللطف. ولكنه استغل ذات يوم حفلة جمعته به فقال له معاتباً: أما زلت يا معروف تعتقد أنني أعدد أياماً واقبض راتباً؟ فأجابه الشاعر: «عسى ألا تكون».