كمال مرجان... سياسي مخضرم دخل السباق إلى قصر الرئاسة التونسية

دبلوماسي ووزير دفاع يتزّعم رموز النظام السابق

كمال مرجان... سياسي مخضرم دخل السباق إلى قصر الرئاسة التونسية
TT

كمال مرجان... سياسي مخضرم دخل السباق إلى قصر الرئاسة التونسية

كمال مرجان... سياسي مخضرم دخل السباق إلى قصر الرئاسة التونسية

وقع حزب «تحيا تونس» بزعامة رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد مع زعيم حزب «المبادرة الدستورية الديمقراطية» الوزير المخضرم كمال مرجان اتفاق اندماج رسمي بين الحزبين، في موكب شهده مئات من كبار كوادرهما، في واحدة من أبرز خطوات التأثير في المشهد السياسي والانتخابي التي يتردد في الكواليس أن باريس وعواصم غربية تدعمها. ولقد أكد اندماج الحزبين انفتاح الشاهد (42 سنة)، الزعيم الشاب لحزب «تحيا تونس» ورفاقه على السياسيين والدبلوماسيين والعسكريين المخضرمين، الذين تحملوا مسؤوليات عليا في الدولة في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، ثم بعد الإطاحة بحكمه في يناير (كانون الثاني) 2011، بينهم الوزير كمال مرجان.

ردود الفعل على خطوة الاندماج بين حزبي «تحيا تونس» و«المبادرة الدستورية الديمقراطية»، مؤخراً، تراوحت بين الترحاب والانتقاد اللاذع. وهي أكدت ما سبق تسريبه عن إبرام أنصار يوسف الشاهد وكمال مرجان وقياديين من «حركة النهضة» ومن أحزاب اليسار اتفاقاً سياسياً انتخابياً شاملاً في الكواليس بين عدة لوبيات سياسية واقتصادية. ويهدف هذا «الاتفاق» إلى تأمين فوز الشاهد برئاسة حكومة ما بعد انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، وكمال مرجان برئاسة الجمهورية، وشخصية ثالثة مقربة من «حركة النهضة» برئاسة البرلمان (؟).
ودُعمت حظوظ هذا السيناريو بعد المباحثات التي أجراها مؤخراً رسميون في حكومة الشاهد وقياديون من أحزاب «تحيا تونس» و«المبادرة» و«النهضة» مع مسؤولين كبار في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة، ومع السفراء الغربيين المعتمدين في تونس.

- لوبي صناع القرار
يعتبر كمال مرجان، وزير الوظيفة العمومية والإصلاح الإداري في حكومة الشاهد الحالية، ووزير الدفاع بين 2005 و2010، ثم وزير الخارجية حتى انهيار حكم بن علي في يناير 2011، من أكثر الشخصيات السياسية التونسية إثارة للجدل داخل مطابخ صنع القرار السياسي والاقتصادي. وكان من بين نقاط قوته وضعفه في الوقت نفسه، قبل ثورة يناير 2011 وبعدها، أنه من بين أصهار عائلة زين العابدين بن علي من جهة زوجته درّة، التي هي ابنة عم الرئيس الأسبق وصديقه الطيار رضا بن علي.
ولد مرجان في الحي السكني الذي ولد فيه زين العابدين بن علي في الضاحية الشمالية لمدينة سوسة السياحية بمنطقة الساحل التونسي، التي ينحدر منها أبرز رجالات الدولة والمال والأعمال منذ استقلال تونس عن فرنسا في 1956. وبين هؤلاء الرئيسان الحبيب بورقيبة وبن علي ورؤساء الحكومات محمد الغنوشي وحامد القروي ورشيد صفر ومحمد مزالي والهادي نويرة وأحمد بن صالح وأشهر الوزراء. وكان القنطاوي مرجان، والد كمال مرجان، من أبرز المقربين إلى بورقيبة وبن علي ومحافظا لمنطقة سوسة. وكان أيضاً يوصف بـ«أبو السياحة في الساحل التونسي» بعدما نجح في تأسيس مدينة سياحية عصرية متكاملة فيها تحمل إلى اليوم اسم «القنطاوي»، تكريماً له ونسبة إلى ولي صالح شهير في الجهة يحمل الاسم ذاته.
ولد كمال مرجان يوم 9 مايو (أيار) 1948، وحصل على الإجازة الجامعية في الحقوق ودبلوم الإدارة العامة من جامعة تونس. ثم تابع دراسته العليا وتخرج بشهادة عليا في القانون الدولي في المعهد العالي للدراسات الدولية في جنيف بسويسرا. كما حصل على دبلوم في إدارة الطوارئ من جامعة ويسكونسن بالولايات المتحدة، وشهادة أبحاث من أكاديمية لاهاي للقانون الدولي في هولندا.

- مرشح قديم للرئاسة
يعود الجدل حول شخص مرجان، المرشح الافتراضي للانتخابات الرئاسية المقبلة، إلى السنوات الأخيرة في حكم بن علي عندما كان وزيرا للدفاع، وفي حينه رشحته وسائل إعلام دولية لتولي حقيبة رئاسة الجمهورية في حال «حدوث شغور في المنصب». ولقد تردد أن ليلى الطرابلسي، حرم الرئيس الأسبق بن علي وبعض أصهاره ومستشاريه ضغطوا يومذاك على الرئيس لإبعاد مرجان، مع التحذير من علاقاته المتطورة بواشنطن والعواصم الغربية منذ بدء مسيرته في مكاتب الأمم المتحدة في 1976. ثم على رأس بعثة تونس في جنيف في 1996، إلا أن بن علي لم يعزله. بعدها، نقله الرئيس من حقيبة الدفاع إلى الخارجية وعينه عضوا في القيادة العليا للحزب الحاكم فطوّر شبكة علاقاته عربياً ودولياً.
وفسّر عدم تخوف بن علي من كمال مرجان بعلاقات المصاهرة التي تجمعه بابن عمه رضا بن علي، الزعيم الكشفي والسياسي الوطني وأحد قادة الطائرات التونسية الأوائل، إلى جانب الإشعاع السياسي في جهة الساحل لوالده القنطاوي مرجان رفيق «الزعيم الحبيب بورقيبة ورجل المال والسياسة البارز في مدن الساحل التونسي». ومع أنه تعاقبت ترشيحات مرجان للرئاسة من قبل «لوبيات» مؤثرة في البلاد بعد سقوط بن علي في يناير 2011، ثم بعد الانتخابات الرئاسية عام 2014، فإنه فشل مراراً في تزعّم المعارضين لـ«حركة النهضة» و«حكومة الترويكا»، وانتزع المشعل منه الباجي قائد السبسي زعيم حزب «نداء تونس».

- لم ينسحب من الساحة
في المقابل، وخلافاً لغالبية كبار المسؤولين في الحزب الحاكم والدولة في عهدي بورقيبة وبن علي، لم ينسحب كمال مرجان والمقربون منه من المشهد السياسي بعد ثورة يناير 2011، بل خاض مع ثلة من كوادر الحزب الحاكم السابقين والشخصيات الليبيرالية تجارب حزبية وسياسية وانتخابية عارضت شعارات مَن لقبوهم بـ«الثورجيين» الذين خلطوا بين الفوضى وانتفاضة الشباب واحتجاجاتهم على بعض سياسات بن علي ورجال الحكم السابقين.
وتحالف مرجان مع شخصيات سياسية اعتبارية من كبار الوزراء والمسؤولين الذين عارضوا بعض قرارات بن علي من الداخل خلال السنوات الأخيرة من حكمه، مثل وزير السياحة والداخلية والمستشار في قصر قرطاج محمد جغام ورؤساء الحكومة السابقين مثل حامد القروي والهادي البكوش ومحمد الغنوشي، وجميعهم من أصيلي مدينة سوسة.
كذلك عارض مرجان ورفاقه منذ 2011 الخطابات الثورية التي وصفت حصيلة ما جرى في تونس طوال 55 سنة بـ«الخراب الشامل». ودافع عن استمرارية «الدولة» مستفيداً من ماضيه الليبرالي والدبلوماسي والحقوقي وفهمه لعمق المتغيرات الجيو استراتيجية بعد تفجر ما سمي ثورات «الربيع العربي». وبعكس نحو 40 حزباً أسست في 2011 من قبل شخصيات ومجموعات كانت في الحزب الدستوري الحاكم قبل 2011، أحدث حزب «المبادرة الدستورية» بزعامة مرجان المفاجأة في منطقة الساحل التونسي في انتخابات أكتوبر 2011 ففاز مرشحوه بنحو 100 ألف صوت وظفر بـ5 مقاعد في البرلمان الانتقالي.

- أنصار المصالحة الوطنية
من جهة ثانية، تعرّض مرجان وحزبه طوال السنوات الثماني الماضية إلى انتقادات بالجملة من قبل النقابيين المعارضين السابقين من يساريين وإسلاميين وعروبيين، الذين اتهموه ورموز الدولة السابقة بتحمل مسؤولية «الخراب الذي وصلت إليه البلاد بعد 55 سنة من حكم بورقيبة وبن علي». وكان يرد عليهم ساخراً «ردّوها لنا في مستوى الخراب الذي تسلمتم فيه الحكم».
وحقاً، لعب عامل الزمن لصالح موقف مرجان، بعدما أصبح جلّ المسؤولين والخبراء الاقتصاديين في الحكم والمعارضة من مختلف التيارات يقرّون بأهمية إنجازات الدولة والإدارة التونسية قبل 2011. ويعترفون بأن البلاد حققت مكاسب، وكانت في حاجة إلى مصالحة وطنية شاملة وإلى إصلاحات، وليس إلى القطيعة الكاملة مع الماضي، أو سياسات ارتجالية تسببت في انتشار الفوضى الأمنية وتعميق مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية ومعاناة شعبها.
ولذا انخرط مرجان ورفاقه، بزعامة محمد الغرياني، مبكراً في تيار الأقلية الدستورية الليبيرالية المطالبة بالمصالحة الوطنية بين مختلف رموز الدولة القدامى والجدد والتيارات السياسية والفكرية الثلاثة: الدستوريين والإسلاميين واليساريين. وشجّع مرجان منذ أغسطس (آب) 2013 اتفاق التوافق السياسي المبرم في باريس بين الرئيس الباجي قائد السبسي، زعيم المعارضة و«جبهة إنقاذ تونس» - حينذاك - وراشد الغنوشي رئيس «حركة النهضة» وزعيم الائتلاف الحاكم.

- نقاط ضعف قاتلة
لكن هذا الانخراط في تيار المصالحة الوطنية غدا سلاحاً ذا حدّين بالنسبة لمرجان وأمثاله من دعاة الوسطية والاعتدال في بلد تزايد فيه أنصار الغلو والتشدد بين الأوفياء للحزب الحاكم قبل ثورة 2011 ومعارضيهم. فمن ناحية، استفاد مرجان من دعواته للحوار والتوافق الوطني، وانحاز قياديون بارزون من التيارين، بينهم الوزير والسفير محمد الغرياني - آخر أمين عام للحزب الحاكم في عهد بن علي - وأحمد نجيب الشابي ومصطفى بن جعفر وراشد الغنوشي زعماء المعارضة قبل 2010، إلى خيار طي صفحة الماضي والمصالحة بين كل الأطراف السياسية دون استثناء. وفي المقابل تكثفت النيران الصديقة الموجهة إلى مرجان وبعض رفاقه القدامى في الحزب والدولة بسبب فتحهم حوارات علنية مع أعدائهم السابقين في المعارضة التي حاربها بن علي بزعامة الغنوشي وبن جعفر والمنصف المرزوقي ورئاسة نقابات العمال ونقابات اليسار الاشتراكي والقومي بقيادة حمة الهمامي وزهير حمدي وزياد الأخضر وزهير المغزاوي ومباركة الإبراهيمي.
وبعدما أوشك مرجان أن يكون مرشح رموز النظام السابق في انتخابات 2014، بدعم من «لوبيات» كبار رجال المال والسياسية في محافظات الساحل التونسي، تخلت تلك «اللوبيات» عنه في آخر لحظة بعدما اتهمته بخذلانها لدفاعه عن خيار المصالحة مع كل الأطراف ومعارضته إقصاء قيادات «حركة النهضة» وما يسمى مجموعات الإسلام السياسي.
وتعتبر المحامية عبير موسي، رئيسة الحزب الدستوري - التي يعارض خطابها بقوة كل أشكال الانفتاح على «حركة النهضة» ويطالب القضاء بحله - حسب كلامها «أن الأخطاء القاتلة لكمال مرجان ومحمد الغرياني ورفاقهما بدأت عندما تصالحوا مع إخوان تونس الذين أقصاهم الرئيسان الحبيب بورقيبة وبن علي طوال خمسين سنة»

- الرهان على الشاهد والعزابي
في أي حال المستقبل السياسي لكمال المرجان والمقربين منه من السياسيين المخضرمين الذين عملوا في مؤسسات الدولة طوال العقود الماضية، سيكون رهين مستجدات كثيرة أهمها، الائتلاف السياسي الذي تشكل حول الشاهد ورفيقه سليم العزابي وجيل من السياسيين ورجال الأعمال معظمهم تحمل مسؤوليات وسطى وصغيرة في عهد بن علي. وللعلم، الشاهد والعزابي بعد التحالف مع مرجان اختاراه رئيسا للمجلس الوطني للحزب الجديد بعد انضمام كوادر حزب «المبادرة». وهما يراهنان على أن يساهم وهو في سن الـ71 في تطعيم الحزب بنخبة من كوادر الدولة والإدارة والسياسيين وتحقيق المصالحة بين الأجيال في العائلة الدستورية.
ومن جانب آخر، اعتبر البعض اختيار مرجان ليكون الشخصية الثانية أو الثالثة في حزب «تحيا تونس» رسالة تطمين داخلية وخارجية للأطراف المتخوفة من دلالات الإشاعات حول تقارب الشاهد والعزابي وبعض رفاقهما «المبالغ فيه» مع قيادة «حركة النهضة» وقيادات التيار الإسلامي. وعلى الرغم من توجيه التهمة ذاتها إلى مرجان فإن رصيده الدبلوماسي الكبير وانخراطه منذ نحو خمسين سنة في حزب بورقيبة وبن علي، وفي مؤسسات الدولة والأمم المتحدة منذ 1976، من شأنهما أن يطمئنا بسهولة رجال المال والأعمال وصناع القرار السياسي حول توجهاته وخيارات زعماء الحزب الجديد الحداثية والعلمانية، وحول مستقبل علاقتهم بالغرب.

- ورقة الغاضبين
لكن كثيرين من أصحاب مؤسسات استطلاع الرأي والإعلاميين، مثل إبراهيم الوسلاتي وحسن الزرقوني والمنذر بالضيافي، يعتبرون أن الحظوظ الانتخابية لكمال مرجان وشركائه في حزب الشاهد - العزابي والائتلاف الحكومي الحالي مرهونة بالسلوكيات السياسية للجمهور العريض الذي فقد الثقة في غالبية السياسيين والأحزاب بسبب تدهور أوضاعه المعيشية. ومن ثم، إذا استمر ارتفاع الأسعار وعجزت الدولة عن ترضية قطاع عريض من الغاضبين - وبينهم مليون متقاعد وأكثر من نصف مليون شاب عاطل عن العمل - فقد تفرز انتخابات الخريف القادم فوز الأحزاب والأطراف السياسية الشعبوية بـ«زعامة» عبير موسى نائبة أمين عام الحزب الحاكم في عهد بن علي.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.