د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

عملة فيسبوك

قبل عشر سنوات قامت شركة «فيسبوك» بإطلاق مشروع يعطي عملاءها إمكانية امتلاك رصيد يستطيعون من خلاله شراء تطبيقات وخدمات مختلفة في وسائل التواصل الاجتماعي. إلا أن هذا المشروع لم يكلل بالنجاح، فبعد سنتين فقط من إطلاق البرنامج أعلنت الشركة إنهاءه بسبب عدم انجذاب المستخدمين له. إلا أن «فيسبوك» لم تفقد الأمل، وقامت في العام 2014 بتعيين «ديفيد ماركوس» القادم من شركة «باي بال» المشهورة في مدفوعات الإنترنت لتكلفه لاحقا بإدارة مبادرات «فيسبوك» لتقنية «بلوك تشين». والآن يبدو أن «فيسبوك» مستعدة لإطلاق عملة رقمية خاصة، بطريقة تبدو أكثر طموحا من سابقتها. وذاعت الأخبار أن مؤسس الشركة «مارك زوكربيرغ» ينتقل بين البنك الفيدرالي المركزي وبنك إنجلترا المركزي وشركة «ويسترن يونيون» للحوالات العالمية لدراسة إمكانية إطلاق عملة «فيسبوك» الرقمية بحلول الربع الثاني من العام 2020، يطمح بعدها رئيس شركة «فيسبوك» أن تكون الحوالات المادية بنفس سهولة إرسال الصور عبر وسائل التواصل الاجتماعي!
وعملة «فيسبوك» - والتي قد تسمى «غلوبل كوين» (Global Coin) - ليست مشابهة للعملة الرقمية المشهورة «بتكوين»، ذلك أنها تعد «عملة مستقرة» (Stable Coin)، وهو نوع من العملات الرقمية يرتبط من ناحية القيمة بعملات تقليدية محددة أو بسلة عملات، ولعل أقرب مثال على هذا النوع من العملات هو «تيثر» الذي تعد مساوية في القيمة للدولار الأميركي، على عكس العملات الرقمية مثل «بتكوين» والتي لا تستند في قيمتها إلى أي عملة تقليدية، ولا تستند على أصول وموجودات. ونشأت العملات المستقرة في البداية لتكون وسيطاً بين العملات التقليدية والعملات الرقمية، ذلك أن متداولي العملات الرقمية لا يشترونها في البداية بالعملات التقليدية، بل بعملة مستقرة تحفظ لهم خصوصيتهم وتبقيهم مجهولي الهوية. وقد عرف هذا النوع من العملات أول مرة في العام 2014، ليصل الآن عددها إلى أكثر من 50 عملة. وقد أوضحت دراسات عدة علاقات طردية بين تداول العملات الرقمية والعملات المستقرة تؤكد الارتباط بينهما، إلا أن العملات المستقرة بقيت على هذا الوضع دون أن يكون لها استخدام حقيقي لعدة أسباب، فعلى سبيل المثال، على الرغم من انتشار عملة «تيثر» إلا أنها لم تستخدم بشكل كامل لعدم وجود جهات كثيرة تقبل بها طريقة للدفع، إضافة إلى تخوف الناس من امتلاك هذه العملة لوقت طويل لعدم قدرة «تيثر» على دعم هذه العملة بالدولار بشكل دائم. ولذلك لم تتعد العملة المستقرة عن كونها محطة انتقال بين العملة التقليدية والعملة الرقمية لعدم وجود محفز حقيقي لامتلاكها.
إلا أن دخول «فيسبوك» في هذا النوع من العملات يعني انتقالها إلى مستوى آخر، فعدد مستخدمي الشركة يفوق ملياري شخص شهريا ينقسمون بين تطبيقات الشركة الثلاثة وهي «فيسبوك» و«إنستغرام» و«واتساب». أي أن الشركة تستطيع الوصول إلى شريحة أكبر من المستخدمين، بينما لا يتعدى عدد متداولي العملات الإلكترونية اليوم 30 مليون متداول. و«فيسبوك» تستطيع تجاوز الكثير من عيوب العملات المستقرة الأخرى بما تمتلكه من إمكانيات، فالشركة التي تتعدى عوائدها السنوية 40 مليار دولار تستطيع دعم عملتها بشكل مستمر، كما أنها تمتلك أذرعا في أماكن شتى يعطيها الإمكانية أن تجعل عملتها مقبولة للدفع في مواقع كثيرة. وهي بكونها عملة مستقرة مرتبطة بعملة محددة أو بسلة عملات، لن تكون قابلة للتذبذب كما هو الحال مع «بتكوين». وعملة «فيسبوك» تتشابه كثيرا مع مثيلتها في شركة «وي تشات» الصينية التي تتيح لعملائها إمكانية الدفع عبر رصيد مستخدميها في أماكن عدة في الصين. ولأجل أن تسوق الشركة لهذه العملة، فقد تبدأ بمنح عملائها عملات مجانية مقابل مشاهدتهم للإعلانات أو تعبئتهم للاستبيانات.
والمنافع المادية كثيرة لشركة «فيسبوك» من استحداث هذه العملة، فالسوق الهندية على سبيل المثال مستهدفة للشركة بسبب كثرة الحوالات المالية للهند والتي تقدر بما يقارب 70 مليار دولار سنويا. وقد تكون الفوائد غير المباشرة للعملة أكثر جاذبية، ومنها معرفة السلوك المالي للمستهلكين من خلال التعرف على معدل الإنفاق وتفضيلات المستهلكين، والتي قد تزيد «فيسبوك» قوة من ناحية توجيه إعلاناتها بشكل صحيح نحو المستهلكين.
ويتضح أن «فيسبوك» تعدت مرحلة كونها مجرد شركة، ولا ينافسها في هذا المستوى كثير من الشركات، وفي حال إطلاقها لعملة جديدة تدخلها إلى سوق الخدمات المالية فهي تزداد قوة بلا شك، وهو ما يبعث على التأمل في طموح هذه الشركة التي تمتلك الآن كماً من المعلومات لا يمتلكه غيرها عن تفاصيل حياة الناس وعلاقاتهم الشخصية، فماذا لو زاد على ذلك معرفتها بتفاصيلهم المادية؟ وهو سؤال يطرح الآن أمام المشرّعين في الولايات المتحدة، حتى لا تحدث كارثة أخرى كتلك التي حدثت قبل فترة عن تسرب معلومات مستخدمي «فيسبوك» عن طريق شركة «كامبردج أنالاتكيا».