المثقف كاتباً رثاءه

ما من غرابة في رحلة الطيب تيزيني، ولا في رحيله: مثل كل مفكر عربي يبدأ قومياً فتفجعه الخيبة، فينتقل إلى الماركسية فيفجعه الفشل، فينتقل إلى خليطهما فتفجعه اللامبالاة العربية، فيعود إلى بيته الأول لكي يكتب مرثياته على شكل سيرة ذاتية.
صورة المثقف في مواجهة النظام وفظاظته، ثم في مواجهة المجتمع وهشاشته، وفي النهاية خوائه، ثم في مواجهة المثقفين وضعفهم أمام القضايا ومللهم من صعوبتها. بعدما كتب طويلاً في أحلامه، ولم يلق من عالمه سوى الخراب، عاد يموت بين خرائب حمص. صادق جلال العظم أغرته المنافي الطويلة بالعودة إلى دمشق، ولو في تسوية صعبة، لكنه اكتشف بعد سنوات أنها تتطلب الابتهاج بمنحه خطاً هاتفياً وتقديم الشكر على ذلك، باعتباره دليلاً من دلائل الحرية الفكرية. فجمع حوائجه وغادر إلى ألمانيا، التي علمته فلسفة هيغل وكانط وجماليات غوته.
المثقف والسلطة مسألة قديمة جداً، وليست خاصية عربية في جملة خواصنا. حتماً بدأت قبل أن يحمل سقراط على الانتحار بتناول السم لكثرة ما أزعج من خواطر، هو وأسئلته وإصراره على المثاليات. ويقول البعض إنه أصر على تجرع السم، ليس من أجل الحقيقة، بل هرباً من زوجته. وسوف يهرب تولستوي من زوجته أيضاً، ويموت في محطة قطار، فيما لحقت به صارخة: ماذا فعلت لك يا زوجي الحبيب!
بعد نهاية الاتحاد السوفياتي وفتح أدراج الأرشيف، عثر على تلك الرسائل التي بعث بها بعض كبار الأدباء والمفكرين، يطلبون خدمات من ستالين، من نوع مضحك. أو تافه. لكنه مضحك أو تافه في المجتمعات المفتوحة. أما في موسكو، فكان عليك أن تنتظر ست سنوات لتحصل على إذن بشراء سيارة «لادا». يروي توفيق الحكيم كيف كان يتعيَّن على أديب كبير أن يطلب رضا ضابط صغير لقاء فقط أن يعامله بشيء من الاحترام.
المثقف والسلطة علاقة معقدة. إنه متهور وضعيف. ولذلك، لا يؤتمن. ومثل نجيب محفوظ والحكيم ويوسف إدريس يجب أن تبقيه دائماً في مدى سطوة الرقابة والرقيب. عندما تخطى الطيب تيزيني عمر الخوف من الرقابة، عاد إلى حمص مفضلاً ركامها على حدائق المنفى في باريس. يحدث ذلك غالباً لجميع المثقفين. يعيشون شجعاناً في عبور الحياة، وبالشجاعة نفسها، يهيئون لليوم الأخير. الشجاعة كانت آخر صفات الطيب، فلا قيمة لها في بلادنا. صفته الكبرى كانت كثافة ثقافته.