الفضل ناسب بيننا!

في الكتابة، ليس أصعب من الحذف بعد الإثبات!
تتبُّع صورة أو لقاء، وتكتبه بأكثر من طريقة، لتقربَه للقارئ الذي تتمنى بصدق أن تحافظ على تركيزه واستمتاعه بما يقرأ، محاذراً أشدَّ الحذر أن يقولَ: ما لهذا الكاتب الثرثار، يُكثر الحشوَ، ويقفز بي من فكرة لغيرها، بل ويسهب في الحديث عمّن لا يهمني.
وإن استدركت على كتاب «التسامح»، كثيراً من القصص التي سوّدتها وحفظتها، ولم أضعها في الكتاب، مخافة إطناب يملّه القارئ، لكن مَن قرأ الكتاب علمَ إعجابي بصداقة رجلين كانا نموذجَ التسامح والصداقة والمحبة، رغم فارق العمر واختلاف الديانة وانتفاء المصالح الذاتية.
أما الأول، فعميد فأشعر القرشيين، كما يتفق كثيرون، وليس مثلي من يخالفهم، ولحسن حظه أنه ولد بعد أربع سنوات من مقتل شاعر العرب الأول أبي الطيب المتنبي، فقد قال الشعر في العاشرة من عمره، وتولى نقابة الطالبيين، وإمارة الحج، والنظر في المظالم، قبل أن يجاوز الحادية والعشرين من عمره العريض.
كان الشريف الرضي عاليَ الهمة موفورَ النعمة، على زهد لا ينكره من عرفه، ولم تمنعه مكانته من قرض الشعر وسحر القلوب، فها هو الدكاترة زكي مبارك، الذي يرى الشريف أشعر من أبي الطيب، يقول في كتابه الجميل «عبقرية الشريف الرضي» بصريح العبارة: «طُلب إليَّ أن أكتب عن أعظم شاعر أنجبته العربية، فكتبت عن الشريف الرضي». ومَن وقف على ديوان الشريف رأى رجلاً يريد الوثبة فلا يطيعه الزمان، وأصاب غبارُ الحرب عينه وأنفه، وكبده مفتتة حال الحزن، وهو من أرقّ الناس قلباً، وأكرمهم نفساً.
في سيرة الشريف الرضي، أنه كان عفيفاً لا يقبل الصِّلات (الهبات)، ولا الجوائز، مخافة أن يَمدح من لا يستحق، أو أن يشعر بمنة أحد، حتى ردَّ ما كان جارياً لأبيه من صِلات الخلفاء والملوك.
أصرَّ بنو بويه عليه ليأخذ الصِّلة، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
وما أجمل وصف السيد الرفاعي للشريف الرضي بأنه: «كان أشعر قريش؛ وذلك لأن الشاعر المُجيد من قريش، ليس بمُكثر، والمُكثر ليس بمجيد، والرضي قد جمع بين فضلي الإكثار والإجادة، وكان صاحب ورع، وعفة، وعدل في الأقضية، وهيبة في النفوس»!
ومن عجيب خبر الرضي، الذي يرفض العطايا مخافة استمالة أبياته، أنه يُحَبِّرُ قلمه ثناء، وتفيض قريحته مدحاً في رجل من عامّة الناس، بل من أقليات بغداد التي اشتغلت بالطب، وهو من الصابئة، فجدُّه ثابت بن قرة، الذي «أدخل الصابئة إلى أرض العراق، فثبتت أحوالهم وعلت مراتبهم، وبرعوا في مختلف الآداب والعلوم»، طبقاً لابن القفطي.
وإذا ذُكر الصابئة، ذُكر أبو إسحاق، صاحب صاحبنا الشريف الرضي، وخليصه من الناس، رغم فارق العمر، واختلاف الديانة، ولا ندري أيهما البادئ بالفضل على صاحبه، إذ نجد أن الشيخ أبا إسحاق، الذي يكبر الشريف الرضي، يرى فيه النجابة مبكراً، فيقول فيه:
أبا حسنٍ لي في الرجالِ فراسةٌ
تعودتُ منها أن تقولَ فتصدقـا
وقد خَبَرَتني عنكَ أنّك مـــــاجدٌ
سترقى من العليا أبعـدَ مرتقى
فوفَيتُكَ التعظيم قبل أوانـــــــــه
وقلتُ أطالَ اللهُ للسيـدِ البقـــــا
ولأنَّ الشيبَ، صبغ مفرق أبي إسحاق، فيما الفتى القرشي لم يجاوز السابعة عشرة، فلم تقبل شيمة الشريف ألا يُسلّي صاحبه ويواسيه، فقال:
ولو أنَّ لي يوماً على الدهر إمرة
وكان لي العدوى على الحدَثانِ
خلعتُ على عطفيك بُرد شبيبتي
جَواداً بعمري واقتبال زماني
وحمَّلتُ ثقل الشيب عنك مفارقي
وإن فلّ من غربي وغضّ عناني
وما سبق ليس نادراً، فبين الرجلين شعر ونثر كثير، جُلُّهُ رقيق يُسعد النفوس، ويشعرك بجمال العلاقات الإنسانية حين يكون الوداد عمادها والصداقة منبتها.
ولا أنفي أن البعض تتبعوا علاقة الرجلين، مستندين إلى غرابتها، إنْ بالنظر إلى الفوارق العمرية أو الدينية، وبخاصة أن أثر هذه العلاقة الشفافة باقٍ إلى اليوم، فخلصوا إلى أن أبا إسحاق كان جليساً لوالد الشريف، نديماً له، كما يجمعهما بغضُ عضد الدولة البويهي، لكن جامع البغض المشترك، وإنْ عظم، لا يُنبت رقّة كالتي بين الشاب سليل بيت النبوة، والشيخ الصابئي الذي لا تجمعه بالشريف سوى علائق الأدب، وتقدير النباهة، وصداقة الأب، فيضع الشريف الرضي المعيار الحقيقي بين الناس:
الفضل ناسب بيننا إن لم يكن
شرفي مـناسبه ولا ميلادي
إِلا تكن من أُسرتي وعشائري
فلأنت أعلقهم يداً بـودادي
أو لا تكن عالي الأصول فقد وفى
عِظــمُ الجدود بسؤدد الأجــداد
ولا يقصر أبو إسحاق في الوصال، بل يشتاق إلى مجلس الشريف، ويندب حظه إن لم يره لبُعد المسافة، فيكتب إليه بدم القلب:
فإن تنأَ عنك الدارُ فالذِّكر ما نأى
وإن بان منّي الشخص فالشوق لم يَبِنِ
وقد فُجع أبو إسحاق باثنين من أبنائه، فكانت الرسائل بين الرجلين أرقى مواساة وأجمل تسلية، صنيع محبة الصديق الذي لا يرجو إلا الترويح عن صاحبه.
أما الشيخ، فلم يخفِ لوعة اشتياقه لخليله، إذ قال:
أشتاقكم فدواعي الشوقِ تُنهضني
إليكمُ وعوادي الدهر تُقعدنـي
وأعرضُ الودَّ أحياناً فيؤنسني
وأذكرُ البُعدَ أطواراً فيوحشنـي
هذا ودجلــةُ ما بينــي وبينكــــــمُ
وجانب العبرِ غيرُ الجانب الخشنِ
وإنْ برع أبو إسحاق في النثر، أكثر من الشعر، إلا أنه كان يطلب من صديقه الشريف رأيه حين يجترح الشعر، ويفرح بردود الرضي، التي لم تكن تبطئ أبداً، وفي ذلك يقول أبو إسحاق: «فلو استطعت أن أسعى إلى أنامله، التي سطرت تلك البدائع، ورصفت تلك الجواهر، لفعلت مسارعاً، حتى أودعهن عن كل حرف قُبلة، إذ كن للفضائل معادن وللمحاسن مكامن».
عُرضت الوزارة على أبي إسحاق، شريطة أن يسْلم ويترك دينه، لكن الرجل احتفظ بدينه ولم يطمع في المنصب، ورغم تقلب الأحوال بالرجلين، إلا أن كلاً منهما ضرب أروع الأمثلة في الإخاء والصداقة المتعالية على تقلب الأيام واختلاف الأحوال.
وأرهف حواسك لوصف الشريف، المحبة العالية:
إخاءٌ تساوى فيه أُنساً وإلفــــــــة
رضيعُ صفاء أو رضيع لِبـــــــــان
تمازج قلبانا مزاج أخوة
وكلُّ طلـوبي غايـة أخوان
وغيـرك ينبو عنه طرفي مجانباً
وإن كان مني الأقرب المتداني
وربَّ قريب بالعداوة شاحط
وربَّ بعيد بالمودة داني
وقد كان الشيخ أسبق إلى ربِّه من الشاب، الذي جُمع له الشعر بعد أبي الطيب، ولم يبخل صاحبنا الشريف على صديقه بالرثاء، فرثاه بدالية وقافية ويائية، بثلاث قصائد، كل واحدة أرقّ من أختها، فمن داليته يقول:
فقد كنت أهوى أن أُشاطرك الردى
لكن أراد الله غير مُرادي
ثكلتْك أرضٌ لم تلد لك ثانياً
إني ومثلك مُعوزُ الميلاد
لك في الحشا قبرٌ وإن لم تأوِه
ومن الدموع روائحٌ وغوادي
هذا نزر يسير من علاقة محبة وصداقة لولا التسامح لما كانت ولما نُقلت إلينا هذه النصوص التي تفيض رقةً وإحساساً وإنسانية.