خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

أين تقف روسيا في التوتر الأميركي الإيراني؟

الإجابة السهلة أن روسيا تعد إيران حليفاً، كلتاهما تدعم النظام السوري في سوريا، وبينهما علاقات اقتصادية مشتركة فيما يتعلق بملف الطاقة في بحر قزوين، كما أن إيران تتقاسم مع تركيا التأثير الثقافي في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق المسلمة، عن طريق اللغة والثقافة الفارسية والمذهب الشيعي.
لكن هذه الإجابة بعيدة عن الصحة. للقوى العظمى حسابات تختلف عن القوى الإقليمية الساعية إلى السيطرة. لكي أوضح الفكرة سأتخذ من سوريا مثالاً.
أحد أسباب لجوء النظام السوري إلى روسيا كان خوفه من تعاظم النفوذ الإيراني. قبل 2011 ربطت بين البلدين مصالح مشتركة، ولكن متكافئة. إيران لا تستطيع الاستغناء عن سوريا كممر لنفوذها وأسلحتها إلى «حزب الله». وسوريا تستمد من إيران قوة تمكّنها من تعضيد وتقوية نفوذها في لبنان، عبر «حزب الله».
لكن بعد 2011 اختلّ هذا الميزان. صارت سوريا شقة سكنية مهدمة، تكاليف صيانتها عالية. والثمن السياسي المطلوب منها لإيران - في مقابل الصيانة - باهظ. لم تعد العلاقة ندّية، بل تشبه في حياتنا الاجتماعية علاقة أسرتين في نفس العائلة، إحداهما تكفل الأخرى تماماً.
يعيدنا هذا إلى روسيا، وطبيعة علاقتها بسوريا، ونظرتها إلى إيران في ظل هذه العلاقة.
القوى العظمى «عقلها كبير» حين تتعامل مع مناطق نفوذها. يعود هذا إلى عدة أسباب؛ أولها فارق القوة الهائل بين القوة العظمى وبين دولة تخضع لنفوذها الإقليمي. فارق يجعل روسيا تتعامل مع سوريا بلا خوف من المستقبل.
رغم أن حجم الاقتصاد الروسي بوجه عام لا يزيد على حجم اقتصاد كوريا الجنوبية الأقل نفوذاً بكثير، فإنه في الجانب العسكري يقف في مصاف القوى الكبرى. وبالتالي فإن تكلفة المغامرة العسكرية الروسية في سوريا ليست باهظة. بل هي مغامرة ناجحة حتى الآن بالمعايير السياسية. أما إيران فمغامرتها في سوريا تعني أنها دفعت «دم قلبها»، اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، دون أن تحرز مكسباً يضاف إلى ما كان عليه الوضع قبل 2011 ولن يعوضها عن «دم قلبها» إلا الاستئثار الكامل بالقرار السوري.
القوى العظمى، بوجه عام، تملك الواحدة منها عدة مناطق نفوذ، تولي كلا منها قدراً محدوداً من الجهد والإنفاق. على عكس القوة الإقليمية الساعية إلى السيطرة على جيرانها، والتي تتعامل مع كل منطقة نفوذ كأنها «صيد» لا يعوَّض. كون روسيا دولة عظمى، فعليها أن تلعب بعدة كرات في الوقت نفسه. عندها سوريا، ولكن عندها شرق أوكرانيا، وشبه جزيرة القرم، وملفات أخرى. هذا يعني أن عليها التفاهم مع الأميركيين، فلن تستطيع أن تحصل على كل شيء.
الولايات المتحدة لم تنازع روسيا نفوذها في سوريا. اكتفت غالباً بمحاربة «داعش»، ولكن تركت لروسيا المجال الأكبر للحفاظ على مصالحها السياسية.
في المقابل تَعتبر أميركا وإسرائيل أن إيران وبرنامجها النووي يمثلان خطراً مباشراً. ومن الأرجح أن روسيا تتفهم هذا. لا أقول إنها ستتحالف مع الولايات المتحدة ضد إيران، لكنها ستتفهم الموقف الأميركي كما «تفهمت» حرب العراق. لفظة «تتفهم» أستخدمها هنا بالمعنى السياسي، أي التفهم الذي يُترجم إلى تفاهمات حول الملفات المذكورة أعلاه. وحول ملفات أخرى تدرك روسيا مصلحتها فيها. أبسطها الوجود الأميركي في أفغانستان. روسيا تعرف أن انسحاباً أميركياً كاملاً من أفغانستان ربما يؤدي إلى اضطراب على حدودها، وتقوية للجماعات المتطرفة داخلها. وربما يضطرها إلى التدخل بنفسها.
حصيلة هذه النقاط كانت تصريحات روسيا بشأن إيران. الرئيس بوتين دعاها إلى الالتزام بتعهداتها في الملف النووي حتى وقد انسحبت منه الولايات المتحدة. وقال إن روسيا ليست «قوات إطفاء» وظيفتها التدخل في النزاعات لإخمادها، لا سيما حين لا تكون فاعلاً أساسياً فيها.
سوريا أعطت لروسيا فرصة العودة إلى منطقة ساحل المتوسط. وهي منطقة تعتبرها امتداداً استراتيجياً لأمنها. هذا نزاع ممتد تاريخياً على إرث بيزنطة. القرن العشرون شهد عودة موسكو أخيراً إلى ساحل المتوسط بعد قرون من سيطرة العثمانيين عليه. ثم فقدت هذا النفوذ في أواخر القرن بسقوط الاتحاد السوفياتي. وكانت إيران الخمينية أسبق في محاولة ملء الفراغ من تركيا الإردوغانية.
من ينازع روسيا على العودة إلى منطقة النفوذ تلك لم يكن الولايات المتحدة إذن، بل قوى إقليمية تريد أن ترتدي جلباباً جغرافياً أوسع من حجمها وقدرتها. روسيا أثبتت أنها قادرة على ترويض إردوغان ورسم حدود حركته. الآن لديها فرصة أن يقلم لها آخرون أظافر إيران. فلمَ لا؟
إيران ملتزمة بحدودها الجغرافية أفضل لروسيا كثيراً من إيران ساعية إلى السيطرة على الجوار.