البرهان... جنرال «شغوف بالعسكرية» يواجه اختبار السياسة

من حرس الحدود إلى قيادة السودان

البرهان... جنرال «شغوف بالعسكرية» يواجه اختبار السياسة
TT

البرهان... جنرال «شغوف بالعسكرية» يواجه اختبار السياسة

البرهان... جنرال «شغوف بالعسكرية» يواجه اختبار السياسة

حين حاولت أجهزة نظام الرئيس المعزول عمر البشير فض الاعتصام أمام وزارة الدفاع في الخرطوم بقوة السلاح في الساعات العصيبة التي سبقت سقوطه، تردد اسم الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان في محيط ساحة الاعتصام، باعتباره أحد رهانات الشعب الرابحة في الجيش. أقدمية البرهان وسيرته في صفوف جنود القوات المسلحة وضباطها، دفعتاه ليقود البلاد في فترة حرجة عقب الرفض الواسع لتولي نائب البشير الفريق عوض ابن عوف قيادة المجلس العسكري. ولد عبد الفتاح البرهان في قرية قندتو الصغيرة قرب مدينة شندي (شمال السودان) في عام 1960، وتلقى تعليمه الأولي في مدارس القرية قبل أن يتخرج في مدرسة شندي الثانوية، ليلتحق بالكلية الحربية السودانية في مطلع الثمانينات، ويتخرج ضمن دفعتها الحادية والثلاثين.
ينتمي رئيس المجلس العسكري الانتقالي إلى أسرة سودانية عُرفت بنزعتها الدينية الصوفية، إذ تنتمي إلى «سجادة الطريقة الختمية»، أكبر الطرق الصوفية في البلاد التي يرعاها محمد عثمان الميرغني. جده الأكبر من جهة الأم الشيخ الحفيان راعي أشهر خلوات تحفيظ القرآن في تلك المنطقة، وهو متزوج من إحدى قريباته، وله منها خمسة أبناء، هم: منذر ومحمد وروى ووئام وليم.
تميز البرهان وسطع نجمه بين ضباط دفعته وكان في مقدمة رفاقه، وظل يتنقل منذ تخرجه برتبة الملازم في مناطق العمليات بأطراف السودان في ذروة الحرب المشتعلة والنزاعات؛ إذ عمل بعد تخرجه في قوات حرس الحدود ثم تنقل في وحدات قتالية بولايتي أعالي النيل والاستوائية في جنوب السودان قبل الانفصال، ثم انتقل إلى القيادة الغربية للقوات البرية بمدينة زالنجي وسط إقليم دارفور إبان اشتداد الصراع المسلح.
ولم يستقر به المقام في القيادة العامة للجيش إلا بعد أن بلغ رتبة رفيعة، تدرج بعدها ليدخل زمرة كبار قادة القوات المسلحة. وتلقى البرهان دورات عسكرية في عدد من دول العالم، منها سوريا والأردن، وقاد عدداً من وحدات القوات المسلحة قبل تعيينه قائداً للقوات البرية ثم مفتشاً عاماً للقوات المسلحة السودانية. وظل في هذا الموقع حتى أُطيح بالبشير.
من أبرز المحطات الخارجية لرئيس المجلس العسكري الانتقالي عمله لسنوات عدة ملحقاً عسكرياً للسودان لدى جمهورية الصين الشعبية، التي تُعد من الدول التي تربطها علاقات متميزة مع الخرطوم.
وأشرف على مشاركة الجيش السوداني ضمن تحالف دعم الشرعية في اليمن، وكُلّف بتنسيق عمل القوات هناك. وأتاحت هذه المهمة تقارباً كبيراً بينه وبين قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دلقو الشهير بـ«حميدتي»، الذي أصبح لاحقاً نائبه في المجلس العسكري الانتقالي.
ويقول عنه الرئيس السابق لهيئة الأركان سابقاً الفريق أول عثمان بلية، إن «البرهان من أكفأ الضباط في الجيش السوداني. عُرف عنه تميز في الأداء إلى جانب الصدق والأمانة». وأضاف لـ«الشرق الأوسط» أن «البرهان أفضل من يقود البلاد في هذه المرحلة»، مشيراً إلى أن الرجل «حرّك الجيش انحيازاً لخيار الشارع السوداني، لذلك هو الضامن الأجدر حتى إكمال عملية الانتقال إلى الحكم المدني». ولفت إلى أن «الانضباط الصارم وحسن الإدارة ميزة يمكن أن تساعد في تجاوز هذه المرحلة المعقدة، خصوصاً إذا تم التوافق مع المدنيين من أجل قيادة مشتركة».
وتقول مصادر عسكرية شهدت اللحظات العصيبة بعد سقوط البشير داخل القيادة العامة للجيش، إن «البرهان أجرى مشاورات واسعة مع قادة وحدات الجيش، وهو مَن أبلغ رئيس المجلس العسكري السابق عوض ابن عوف ونائبه كمال عبد المعروف برفضهما من المعتصمين، باعتبارهما من كبار مساعدي الرئيس المخلوع وبسبب مشاركتهما في محاولات فض الاعتصام بالقوة».
وتشير المصادر التي تحدثت لـ«الشرق الأوسط» إلى أن قيادة البرهان للجيش وتدخله في هذا الوقت «أملتهما الجماهير، ثم مكنته الكاريزما الخاصة به، من ترتيب الأوضاع داخل وحدات الجيش نحو موقف موحد وداعم للثورة».
الرائد المتقاعد أحمد بابكر التجاني، وهو من الدفعة الحادية والثلاثين في الكلية الحربية، قال في وقت سابق لـ«الشرق الأوسط» إن البرهان كان من الأوائل في تلك الدفعة، ويحظى بحب عساكره ومرؤوسيه واحترامهم. وأوضح أنه «لا ينتمي إلى الإخوان المسلمين أو يميل إليهم، وترقى في الجيش لكفاءته ومهنيته العالية. لذلك من الطبيعي أن يقبل به الضباط والجنود لقيادة الجيش في هذه المرحلة». في بادئ الأمر، وجد البرهان ارتياحاً وقبولاً في ساحة الاعتصام بعد أن تسلم القيادة من ابن عوف، إلا أنه سرعان ما وجد نفسه في عين عاصفة أخرى من الغضب بعد تعثر التفاوض بين المجلس العسكري الانتقالي الذي يقوده و«قوى الحرية والتغيير» التي قادت الحراك الشعبي حتى إسقاط البشير.
تتسم شخصية البرهان بـ«الاعتدال»، بحسب أحد أقاربه من الدرجة الأولى... «يُوصَف بالمرح وبالمستمع الجيد قليل الكلام، ولا يُعرف عنه خوض في السياسة بشكل مباشر»، رغم وجوده في مؤسسة عُرف عنها تاريخياً الغرق في السياسة وشؤون الحكم. ويضيف قريبه أنه «لا ميول سياسية للبرهان. لديه فقط شغف بالعسكرية»، مشيراً إلى أن «انصراف الرجل عن السياسية وزهده في مخالطة قيادات النظام السابق السياسية وانخراطه بشكل واضح في شؤون الجيش والمهام التي كُلف بها، جعلته بعيداً عن حالة الاستقطاب الحادة التي طالت المؤسسة العسكرية وقادتها الكبار».
لكن التأكيدات القاطعة بعدم وجود انتماءات ذات طبيعة سياسية للبرهان لم تمنع البعض من إثارة الشكوك حول وصوله إلى هذه الرتبة العسكرية الرفيعة في ظل هيمنة الإسلاميين على الجيش. ويعود قريبه ليعزو الترقي إلى أن «تميزه العسكري والكاريزما الخاصة به وسط الضباط والجنود هي ما قادته إلى هذا الموقع الرفيع في الجيش».
اللواء المتقاعد عبد الرحمن عبد الحميد، من دفعة البرهان في الكلية الحربية، يقول إن «الرجل مرتَّب ويتمتع بالحكمة والذكاء، ولا يعرف الحقد». وأضاف أن «البرهان لا يضيق بالنقد ويتقبل الرأي الآخر. لكنه في الوقت نفسه كتوم، ويبادل من يتعاملون معه الثقة». ويضيف أنه «ليس كل ضباط الجيش لهم علاقة بتنظيم الإسلاميين. وأنا ورئيس المجلس العسكري كنا كذلك لا صلة لنا بهم. فقط هنالك بعض المتسلقين من الضباط انتموا إلى حزب المؤتمر الوطني الحاكم آنذاك».
وفي أول ظهور تلفزيوني لرئيس المجلس العسكري الانتقالي، حاول الرجل أن يعطي انطباعاً بالثقة في قدرته على الإمساك بالملفات المعقدة لعملية انتقال السلطة. لكن يأخذ عليه منتقدوه عدم الإسراع بتفكيك مفاصل النظام السابق التي ما زالت تسيطر على أجهزة الدولة، ما قد يتيح الفرصة لعودة النظام السابق عبر «ثورة مضادة».
غير أن وجهات النظر تتباين حول البرهان بين «قوى التغيير»، فبينما يرى بعضها أن الرجل «مقبول ومؤتمن على تسليم السلطة للمدنيين»، ترفض أطراف أخرى مبدأ قيادة العسكريين للمرحلة الانتقالية بغض النظر عمن يتقدم منهم لقيادة المجلس العسكري، وتصف انحيازهم إلى الشعب بـ«الطبيعي»، لكنها تعتبر «التباطؤ» في تسليم السلطة للمدنيين بمثابة «انقلاب عسكري وسرقة للثورة». ويقول محمد فاروق، رئيس المكتب التنفيذي لـ«حزب التحالف الوطني»، أحد فصائل «قوى الحرية والتغيير»، إن «البرهان يلعب الآن الدور نفسه الذي لعبته قيادة الجيش السوداني إبان انتفاضة 1985 الذي تمخض عن تسليم السلطة للمدنيين رغم اختلاف الظروف». وأوضح أن «أخطر دور ملقى على عاتق البرهان في هذه المرحلة هو الحفاظ على وحدة الجيش وعدم التعامل بوصاية مع السياسيين المدنيين». وينظر محمد وداعة، القيادي بحزب «البعث» السوداني، إلى البرهان باعتباره «رجلاً ذكياً وشجاعاً». ويقول: «كان من أبرز الفاعلين في تصحيح موقف الجيش من الثورة وتأكيد انحيازه لها». وأضاف أن «تفاصيل اللحظات الحاسمة توضح بجلاء أن البرهان مارس ضغوطاً كبيرة من أجل ضمان انحياز الجيش مرتين لمطالب الشعب؛ الأولى عندما كان من الداعمين لعزل البشير، والأخرى عندما أطاح ابن عوف المرفوض من الشارع».
وبشأن التخوفات من «أطماع» قد تكون لدى المجلس العسكري للاستمرار في السلطة وعدم تسليمها للمدنيين، يرى وداعة أن «التخوفات قائمة، لكن السودان ودّع عهد الانقلابات العسكرية. الآن أمام البرهان مسؤولية التوافق مع الكيانات السياسية التي قادت عملية التغيير لعبور البلاد هذه المرحلة».
ومع تباطؤ عملية التفاوض بين المجلس العسكري و«الحرية والتغيير» بشأن مؤسسات الحكم الانتقالية، تزداد في ساحة الاعتصام الهتافات الموحية التي يسمعها حتماً الرجل من مكتبه القريب داخل أسوار القيادة، وأبرزها: «برهن برهن يا برهان، ولا حتمشي أنت كمان».
ويبقى المحدد الأبرز لاستمرار البرهان على رأس المشهد السوداني مدى نجاحه في اختبار قدرته على إدارة ذلك التوازن الدقيق بين مطالب الشارع وأولويات المؤسسات.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.