أناقة الزمن الجميل عُملة نادرة يتحسر عليها الرجل الكلاسيكي

هل أصبح الرجل الأنيق مهدّداً بالانقراض؟ وماذا تعني الأناقة بالنسبة للرجال في هذا العصر الذي تطغى عليه المظاهر الخارجية وينقاد فيه الجميع لمبدأ «خالِفْ تُعرَفْ»؟ وماذا بقي من تلك الأناقة المفصلة التي تصقل الهندام والأجسام، في معادلة تكاد تكون موسيقية بين الحركة والخطوط والألوان؟!
تساؤلات كثيرة مماثلة تخطر على أذهان البعض، لا سيما عند حضور مناسبات مهمة. في حفل تقديم المدرّب العائد إلى نادي الريال مدريد زين الدين زيدان في العاصمة الإسبانية أخيراً، كان هذا الأمر لافتاً، فهذا الرجل الذي كان يجسّد الأناقة الكلاسيكية، كلاعب وكمدرّب بأدائه وحركاته على حد سواء ظهر بسترة رمادية تبدو مستعارة من أحد الأزياء التنكّرية، وسروال عجيب من «الجينز» كأنه هديّة من ألدّ أعدائه.
كان مشهد هذا الرجل الذي يقتدي به ملايين الشباب في أنحاء العالم مثيراً للانتباه والاستغراب معاً. فأين هو من جون كيندي وجياني آنيلّي وإيف سان لوران ودوق وندسور، وأين هو أيضاً من ديفيد نيفن وغاري كوبر وأحمد مظهر وعماد حمدي وأمثالهم؟! الآن أصبح الخروج إلى الشارع ببذلة داكنة وقميص أبيض وربطة عنق فعلاً لا يخلو من البطولة.
الأمر نفسه ينطبق على ما قدّمته دور الأزياء الكبرى في عروضها الرجالية لهذه السنة من سراويل قصيرة وقبّعات الصيّادين والقمصان الرياضية الواسعة، فضلاً عن سراويل القطن الرياضية للسفر ومجموعات لا تُحصى من أحذية «سنيكرز» التي أطلق المصممون العنان لمخيلاتهم في قولبتها بأشكال عجيبة وألوان زاهية. كذلك السراويل العسكريّة المرقّطة أو الكنزات المزركشة التي تلمع تحت اللحى القصيرة والرؤوس الحليقة، فهي تدعوك للذهاب إلى مكتبك في شكل مخلوق هجين بين طالب مراهق وكشّاف مغامر وسائق شاحنة.
القاسم الوحيد المشترك بين كل الأفكار التي يعرضها المصممون للأزياء الرجالية، إلى جانب الرغبة الواضحة في الخروج عن المألوف والابتعاد عن السائد قدر الإمكان، هو السفر. إنها كلمة السر الجديدة التي يستلهم منها الذين يوجّهون مسار مظهر الرجل الجديد نحو أقصى درجات الراحة والتحرر من القيود والقواعد الصارمة. ويلفت الانتباه أن هذا التدمير المبرمج للملبوسات الرجالية التقليدية لم يعد مقصوراً على المؤسسات الحديثة في ميادين التكنولوجيا والاتصالات والإبداعات الفنّية، بل تعدّاها ليشمل تلك الرصينة في تعاملها مع التقاليد والقواعد الموروثة، مثل المصارف الكبرى وشركات التأمين والمكاتب الاستشارية في نيويورك ولندن وباريس وميلانو. «غولدمان ساكس» مثلاً عمّمت منذ فترة على موظّفيها أن بإمكانهم ارتداء الملبوسات التي يريدون، شريطة أن «تكون عند توقعات الزبائن»، بينما دعت سلسلة «سوهو هاوس» للنوادي الرجالية الراقية المنتشرة في معظم مدن الغرب الرئيسية أعضاءها إلى التخلّي عن السترة وربطة العنق في صالوناتها.
لكن لحسن الحظ لم ينجرف كل المصمّمين في هذا التيّار الهادر الذي ألغى القواعد وعطّل بوصلة الأناقة، وتركنا في منطقة ضبابية واسعة. الدار الإيطالية «ارمينيخيلدو زينيا»، المعروفة بأنسجتها الفاخرة وبدلاتها التي لا تشوبها شائبة، تصرّ في عروضها منذ سنوات على الدمج بين مقتضيات «السبور» وقواعد الخياطة التقليدية، وتجهد لشرح أفكارها لزبائنها في لقاءات دورية تنظّمها في متاجرها المنتشرة في أنحاء العالم. ويقول آليسّاندرو سارتوري، المدير الفني للدار الإيطالية، إن «المقاومة المستميتة في وجه رياح التغيير الجديدة التي تهبّ بقوّة على عالم الأزياء الرجالية، لن تجدي نفعاً ومن شأنها أن تدفع الدور الكبرى إلى التراجع ثم الانهيار... الحل هو في التكيّف والتدرّج في التغيير ضمن ضوابط جماليّة واضحة». دور أخرى كبيرة، مثل «برادا» و«لويس فويتون» و«ديور» و«غوتشي»، انضمّت أيضاً إلى هذا الركب، لكن مع إفساح مجال أوسع أمام الابتعاد عن القواعد التقليدية.
التغيير والتكيّف معه سنّة راسخة في الحياة، لكن السرعة التي يحصل بها هذا التغيير منذ سنوات أحدثت حالاً من الفوضى في ضوابط الجمال الراسخة منذ أجيال، وأثارت بلبلة في صفوف الحريصين على القواعد المتوارثة لأناقة المظهر والهندام. لكن لا بد من التذكير بأن الرجال في فرنسا كانوا يتبرّجون حتى أواخر القرن الثامن عشر ويختالون في الصالونات بالأقمشة المطرّزة والحرائر الملّونة، وهو ما يُعرف حتى الآن بالأسلوب الداندي، ثم قامت الثورة وفرضت اللباس الأسود على أفراد الطبقة الأرستقراطية تحت طائلة الإعدام، وسرعان ما «امتلأت شوارع باريس بأفواج كئيبة من الرجال الغارقين في السواد»، كما يقول ستاندال.
وشاعت في تلك الفترة أيضاً الأزياء المخصصة لأصحاب الحرف والعلامات المميّزة لأرباب المهن الحرّة والتجّار، مثل اللفحات المسطّرة للجزّارين أو زهرة لإكليل الجبل على ياقة الصيادلة.
كثيرون هم الذين يحنّون إلى الماضي، إلى الزمن الجميل كما تحلو تسميته في عالم الموضة والأزياء، عندما كان الرجل يرتكب خطيئة لا تُغتفر إذا شمّر عن ساعديه، أو يقع في المحظور إذا رفع قبّة معطفه حتى في أيام البرد القارس، ومن الأجدر به أن يضرم النار في حذائه إذا لم يكن أسود أو بنّي. لكن الموجة الجديدة الجارفة لم تأخذ كل شيء في طريقها، وما زالت التقاليد تفرض نفسها في الأعراس والمناسبات الرسمية، وها هو صاحب «فيسبوك»، مارك زوكربيرغ، يختار أن يرتدي بذلة قاتمة وربطة عنق، يوم مثوله أمام الكونغرس الأميركي في جلسة التحقيق حول قضية «كمبردج آناليتيكا».
وحده الحدس هو الملاذ الذي تبقّى لمن ضاعت عليهم القواعد، وكادوا يضيعون دونها. وبعد أن أصبحت أحذية المطّاط والملبوسات الرياضية هي الزي الرسمي للاقتصاد الجديد، تشتدّ الرغبة في العودة إلى فصول الماضي قبل أن تفرض علينا ثورة السفر أزياء المطارات الحزينة.