مئوية بدوية كريم

مئويات شتى، هذا العام. ففي 1919 ولدت في الإسماعيلية، المدينة الجديدة آنذاك، بدوية محمد كريم. وسوف تهاجر البت بدوية إلى مصر أوائل الثلاثينات هرباً من الفاقة ومعاملة الأب. وكان المصريون العاملون في الفن قد بدأوا يحلون محل الشوام. ولم يعد المسرح والسينما عيباً. وهكذا، اعتلى الخشبة يوسف وهبي فعاد جورج أبيض إلى بيروت. واعتلت الراقصة بدوية المسرح، فأزاحت بديعة مصابني. لكن الاسم لم يكن مناسباً تماماً. فاختارت بدوية اسماً فنياً جذاباً يتماشى مع الرقصة الرائجة تلك الأيام: الكاريوكا! إذن، تحية كاريوكا.
شعرت تحية بشيء من الخجل بعريها، فحاولت أن تستره بالعمل الوطني، ثم بالعمل الخيري. وملأ اسمها مصر الفنية، فأصبحت أشهر راقصات النيل. لكن جمالها لم يجذب إليها فقط الرجال الذين تزوجت منهم الواحد بعد الآخر، بل جذب أيضاً المفكرين ورجال النخبة، الذين تذرعوا بعملها السياسي ودخول السجن، لكي يحولوها إلى شيء من أسطورة وطنية. بدأ ذلك المفكر سلامة موسى في الأربعينات، وعندما تكاثرت عليها السنون، تذكّر إدوارد سعيد شبابها وصباه هو في مصر، فجاء يزورها ويكتب عنها إحدى أجرأ أطروحاته «تحية إلى تحية». أما المفكر الآخر جلال أمين، فانتظر أن تهوي الفرس الجموح، ليضع مطالعته عنها، كصفحة ذات وجهين: الجمالي والتاريخي.
سحرت البت بدوية، أو الست تحية، كتّاب وفناني مصر. وخصوصاً أهل اليسار منهم. ولم يترددوا في الشهادة على مكانتها في الوطن وفي النفوس: محمود أمين العالم، وصنع الله إبراهيم، ورفعت السعيد، وصلاح عيسى. وقال يوسف شاهين إن «رقصها شعر». ونفى محمود أمين العالم أن يكون في أدائها «إثارة». ووضع عنها مستشرقون الدراسات. إلا أن مقال إدوارد سعيد كان الجسر النهائي في نقل تحية إلى مواقع المثقفين ومراتبهم. ولكي يبرر قراره أبلغ قراءه أن السيدة المترهلة التي يزورها الآن لم يبق من وهجها السابق أي أثر: «مجرد صورة متحفيّة». أي قد مضى من زمان، ذلك الزمن حين كان يذهب إلى كازينو بديعة مصابني كي يشاهدها تروّض خشبة المسرح، ويهتف ويصفق لها كبار القوم.
«العشق السري: المثقفون والرقص الشرقي» (دار رياض الريس للنشر) للزميل محمد الحجيري، سيرة رقيقة وسرد جميل لعلاقة المثقفين، أو مواقفهم، من «سيدات» الرقص الشرقي، وليس من «الرقاصات» على ما يهتف عادل إمام ضاحكاً مضحكاً.