عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

ليلة القبض على أسانج

رفع حكومة الإكوادور الحصانة الدبلوماسية عن جوليان أسانج، نجم «ويكيليكس»، ليغادر سفارتها في لندن بعد حماية سبعة أعوام، إلى السجن بتهم احتقار المحكمة والهروب من الكفالة، ومطالبة أميركا بمحاكمته، أثارا انقسامات أزاحت بدورها الغطاء عن صراعات في العالم الذي أصبح قرية صغيرة تتعارك فيها تيارات متناقضة.
تناقضات تثير اهتمام المؤرخ أكثر من الصحافي في داخلي، لعبورها عشرة تقاطعات من الحدود الدولية.
أسانج، ابن السابعة والأربعين أسترالي الجنسية بالمولد، مُنح جنسية إكوادورية تهرباً في 2012 من محكمة إنجليزية بتهمة قانون سويدي في 2010، بينما قدمت واشنطن طلباً في 2016 بمثوله أمام محكمة أميركية تحت قانون أميركي بتهمة التآمر لاختراق أجهزة الكومبيوتر.
مؤيدوه في عام 2012 من المشاهير المدافعين عن حرية النشر تحولوا عنه يغتابونه علناً في «بي بي سي» -باستثناء شقراء هوليوود الكندية الأميركية باميلا أندرسون.
وكهرولتها بالمايوه الأحمر على الشاطئ في حلقات «باي ووتش» لإنقاذ الغرقى، قفزت باميلا إلى أمواج التواصل الاجتماعي لتنتشل سمعة أسانج من الغرق وانضمت إلى أم جوليان ليتهما رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، باختيار توقيت القبض على ابنها لتحويل الانتباه عن متاعبها السياسية مع «بريكست».
الصحافة اليسارية الليبرالية التي رفعت «ويكيليكس» إلى آفاق الشهرة بدعوى الإباحية المعلوماتية، فالخبر الصحافي الحقيقي هو ما يريد البعض إخفاءه عن الآخرين، تحولت عنه.
«الغارديان» التي ارتفع توزيعها استفادةً من نشر تسريبات «ويكيليكس» المسروقة من «البنتاغون» عن العمليات العسكرية الأميركية التي استهدفت المدنيين والصحافيين في العراق؛ قطعت علاقتها به بالمقص الذي جزّت به دليلة شعر شمشون ليلة القبض عليه في المعبد.
وظهر محرروها في «بي بي سي» وأخواتها لينهشوا جثة سمعته فيصفونه بالنرجسية والتقلب ونكران الجميل بالتجسس على أسرار حكومة الإكوادور، التي حمته، لكشفها في الصحافة.
أصوات الأقلية المتمسكة بمبدأ حرية النشر خافتة في المنابر التي تريد اليوم أن تحرِّم على «ويكيليكس» ما تجيزه لـ«واشنطن بوست».
الحركة النسوية ومؤيدوها من اليسار الرجالي تطالب بترحيله إلى السويد التي أغلقت ملف القضية الأصلية لغياب الصلاحيات القانونية للمحاكمة الغيابية. ومن الصعب تقدير مصداقية حجتهم بأن ترحيله إلى أميركا سيحجب قضية تتعلق بحقوق المرأة، أم أنهم كعادة اليسار يثبّتون شراع الحق على صاري سفينة تبحر نحو الباطل؟
تهمة السويد في 2010 قدمتها سيدة بتحرشه جنسياً و«اغتصابها» في أثناء النوم في فراش شاركته وصديقتها فيه في نهاية يومين من المرح والاحتفالات والوجبات الثلاثية المشتركة. القضية حيّرت اللغويين والقانونيين معاً في تعريف تهمة «الاغتصاب» بسبب الظروف المكانية والوقتية للحادث، مما أثار الشك بأنها تهمة مخابراتية ملفقة انتقاماً من تسريب «ويكليكيس» للمعلومات التي تحرج أميركا وأخواتها.
أسانج في تقديري نرجسي محدود الخبرة الصحافية كما اكتشفت من مجادلاتي معه في 2011، لكنه ماهر في توظيف القادرين على اختراق شبكات كومبيوترات الدول وتسريب المعلومات.
الأكثر أهمية هو بداية تشكيل ملامح صراع جديد يختلف عن الصراعات التي عرفها العالم، وكلها حول المصالح الاقتصادية.
الصراع الطبقي، حتى بأبعاده الاجتماعية والثقافية، اقتصادي في جوهره بين طبقات انقسمت بتملك الثروة وأخرى معدومة. الماركسيون عرفوه بمستغِلين ومستغَلين (بفتح الغين)، يضيفون القيمة على السلع التي تمتلكها الفئة الأولى. وتفرع منه صراع رؤيتين لنمطين اقتصاديين: الاشتراكية التي يتحمس لها «اليسار» من الطبقة المتوسطة من موظفي القطاع العام بطمأنينة الراتب الشهري وساعات عمل محددة وإجازات مرضية وسنوية ومعاش التقاعد، وحرية السوق والاستثمار التي يروجها «اليمين» وغالبيته المهنيون وأصحاب المتاجر والعاملون 16 ساعة يومياً ليس لأي منهم ضمانات الوظيفة، ومعهم المستثمر المغامر بالاقتراض البنكي.
الصراع الدولي جوهره مصالح اقتصادية، إما على الحدود للوصول إلى منافذ بحرية أو ثروات طبيعية، وإما على مناطق النفوذ، أو صراعات عرقية عند تمرد أقلية على تحكم مجموعة إثنية أخرى في الاقتصاد والقوانين المنظمة له.
لكن الانقسام حول مصير أسانج يصعب تحديده حسب الخطوط الكلاسيكية.
ربما نجد المفتاح في نفاق الصحافة اليسارية التي كان أسانج بطلها الأسطوري حتى 2016 عندما ارتكب المرشح الجمهوري دونالد ترمب، خطيئة الخروج عن النص الذي جهّزته مؤسسة صنع الرأي العام لهذا الفصل من التاريخ بفوزه بالرئاسة بدلاً من هيلاري كلينتون.
وظهرت تعبيرات «الفيك - نيوز» أو الأخبار المزيفة، ودور «المخابرات الخارجية» في توجيه مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي إلى أخبار تدعم ترمب في أثناء الحملة الانتخابية؛ وكأن الوسائل نفسها كانت مغلقة أمام معسكر الديمقراطيين!
وجاء دور «ويكيليكس» في تسريب مراسلات كلينتون عندما كانت وزيرة للخارجية في أثناء تواطؤ الخارجية مع ميليشيات تمثل انفلات زمامها في اغتيال كريس ستيفنسون، السفير الأميركي لدى ليبيا.
وجدت مؤسسة الرأي العام الليبرالية نفسها في مأزق.
جهود الشخصية «الطيبة»، طوّرت شخصية «الشرير» في السيناريو إلى «البطل» على الشاشة الكبيرة يوم العرض الافتتاحي على الجمهور في 8 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016.
في تقرير لتلفزيون «القناة 12» في لونغ آيلاند يوم الخميس اتهمت أم التلميذة بيلا موستاكتو، المدرسة بالرقابة والإضرار بخيال الأطفال، بعد منع المعلمة ابنةَ الحادية عشرة من اختيار الرئيس ترمب «كقدوة» لموضوع إنشاء، لأن «كلماته» في نظر المربية الفاضلة «سلبية تجاه النساء»!
الصراع «الثقافي» اليوم بين رؤيتي منظومتين فكريتين للعالم:
واحدة الأقوى في قدرتها على تشكيل عقلية الصغار، بسيكولوجية جماعية (غسيل المخ قديماً) كحادثة معلمة لونع آيلاند، وتشجيع معلمي مدارس أوروبا التلاميذ على «الزوغان» من الدراسة للتظاهر من أجل «البيئة».
وصياغة عقلية الجيل على أن «الطيب» في تعريف المؤسسة الليبرالية العالمية هو حق «طبيعي» يبرر التمرد على اللوائح، والعكس «شرير».
والأخرى ما كانت تُعرف بـ«الليبرتالية libertarianism» (ليست الليبرالية وإنما رفض الفرد لسيطرة الدولة).
وباستثناء طفرات كانتخاب ترمب أو التصويت على «بريكست»، يصعب قياس قوة التيار المعارض، فهو خيار أفراد لا مؤسسات، وأغلبيتهم متحررون لا ينتمون إلى منظمات ويرفضون منح صوتهم بطاعة عمياء لـ«الطيب».
القياس الثالث الشهر القادم إذا اشتركت بريطانيا في انتخابات البرلمان الأوروبي، كدليل على انتصار المنظومة الأولى برفضها قبول نتائج استفتاء 2016.
خلاف أسانج قمة جبل ثلج عائم، ومن فصول صراع قادم قد يكون الأخطر في تاريخ العالم لقدرة المعسكر الأول على توجيه الرأي العام وإرغام الساسة على تعديل القوانين لضغط الواقع كي يناسب قالب رؤيتهم للعالم.