جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

لمن تقرع الأجراس في «كُنْوي»؟

من كان مثلي، ولم يسمع، مطلقاً، ببلدة اسمها «كُنْوي»Conway تقع على ساحل البحر، في شمال مقاطعة ويلز - ببريطانيا، لا بد أن يكون قد سمع، أو قرأ، أو شاهد شريطاً سينمائياً، أو مسلسلاً تلفزيونياً بعنوان «لمن تُقرع الأجراس؟»، رواية الكاتب الأميركي المنتحر إرنست همنغواي، التي أصدرها عام 1940، بعد رجوعه إلى أميركا قادماً من الحرب الأهلية الإسبانية (1936 - 1939) حيث كان يعمل مراسلاً حربياً لصحيفة أميركية، مسجلاً فيها وحشية تلك الحرب، واستحق عليها نيل جائزة «بوليتزر» القيّمة.
كانت حرباً شرسة وضارية، سُجلت فيها مذابح بشعة، لعل أكثرها شهرة ما سجلته ريشة الفنان الإسباني بابلو بيكاسو في «غورنيكا». وتحارب فيها اليسار الإسباني، بكل فصائله، في تحالف تحت راية الجمهوريين، ضد اليمين الإسباني، بكل فصائله، في تحالف تحت راية الملكيين. ويمكن القول إن تلك الحرب أزاحت الستائر كلية عن صراع بدأت تتشكل أطرافه، وتصطف دولياً، على ساحات العالم، ونقصد بذلك الصراع بين الديمقراطية والشمولية، وقادها جميعاً إلى جحيم حرب كونية، أشد ضراوة، وأكبر ضرراً، وأعظم خسائر على جميع المستويات، وانتهت بدحر النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا. وبدء عروض مرحلة جديدة، على المسرح الدولي، قادها قطبان نوويان؛ قطب رأسمالي تقوده الولايات المتحدة، وآخر اشتراكي يقوده الاتحاد السوفياتي سابقاً، ووجد العالم نفسه، مرة أخرى، في أتون حرب جديدة، مختلفة، ومرهقة، أطلق عليها اسم «الحرب الباردة»، استمرّت حتى سقوط الاتحاد السوفياتي في التسعينات، و«نهاية التاريخ».
يقول النقاد والمؤرخون إن همنغواي التقط عنوان روايته «لمن تقرع الأجراس؟» من ديوان شعر كتبه شاعر اسمه جون دون - John Donne في القرن السابع عشر، على شكل صلوات تأملية شخصية يرددها المرء في أمور دنيوية حول الصلاة والصحة وغيرها، واختار مقطعاً وضعه في مقدمة الرواية، يتحدث عن أجراس الجنازة، وهي دقات أجراس كنائسية، متعارف عليها، تُقرع للإعلان عن موت شخص.
وأراد همنغواي، من ذلك، لفت اهتمام الناس في كل العالم إلى أهمية الحرب الأهلية الإسبانية، وأنها ليست شأناً إسبانياً فقط، بل تهم كل العالم.
ما علاقة كل ذلك ببلدة في أقصى شمال مقاطعة ويلز، صغيرة، تجاور البحر والنسيان، ومقسومة الولاء لغوياً، بين الويلزية والإنجليزية، ورواية شهرتها طالت الآفاق، وترجمت إلى العديد من اللغات؟ الجواب: قرع الأجراس!
لا أعرف كيف وجدت وسائل الإعلام البريطانية، وقتاً أو مساحة، وسط معمعة «البريكست»، كي تنتشل هذه البلدة الصغيرة، من جب النسيان، وتمنح ما عكّر صفو مائها وسمائها مساحة من صفحاتها، لكي تطفو على السطح، برأسها، لفترة زمنية قصيرة.
تقول التقارير إن أجراس كنيسة القديسة ماري بالبلدة، سوف تواصل القرع كل خمس عشرة دقيقة، كما كانت تفعل منذ عام 1841، بعد أن رفع قس الكنيسة شكوى إلى المجلس البلدي، مطالباً بوقف قرع الأجراس، في الفترة ما بين الساعة الثانية عشرة والربع ظهراً وحتى الساعة السادسة والربع مساء، لأن القرع المتواصل، كل ربع ساعة، يسبب إزعاجاً لأفراد عائلته! وبدوره قام المجلس البلدي بدراسة الشكوى، أولاً، ثم قام، ثانياً، باستفتاء سكان البلدة، في استبيان وُزّع على عدد 210 ساكنين، فجاء الاستبيان بنتيجة مخيبة للقس ولستة أشخاص آخرين. عليه تقرر، ثالثاً وأخيراً، استمرار قرع أجراس الكنيسة، المبنية في القرن الثاني عشر، كل ربع ساعة. وعلى القس وعائلته إما التكيف مع الحالة، ومواصلة أداء واجباته الكنسية، أو تقديم طلب بنقله إلى أبرشية أخرى، في مكان آخر، لكي يؤدي وظيفته، ويقفل، بذلك، إلى الأبد ملف انزعاج أفراد عائلته، عبر عيشهم في بلدة تصرّ على مواصلة قرع أجراس كنيستها كل ساعة، وكأنها، بذلك، تحرص على نعي نفسها للعالم.