المعارضة السورية إذ تنتقد ذاتها

هو أمر مفسَّر أن تتواتر المراجعات النقدية في الذكرى الثامنة لانطلاق ثورة السوريين، تحدوها آلام الانكسار والفشل، وفداحة التضحيات التي تكبَّدها الشعب السوري، قتلاً واعتقالاً وتشريداً، وهو أمر مفهوم أن تتصدر هذه المراجعات رموز وشخصيات احتلت مواقع قيادية في صفوف المعارضة السياسية، وإن كان غرضها التحرر من المسؤولية وتبرئة النفس! لكن ما ليس مفسَّراً أو مفهوماً هي شدة التباينات في قراءة هؤلاء المعارضين لما حصل، واستمرار تشتتهم وعجزهم، حتى في بلورة رؤية نقدية صادقة تكشف أسباب النتائج المأساوية التي آل إليها الصراع.
ثمة مَن تمترسوا في انتقاداتهم عند البدايات، عند لحظة تخلي المعارضة عن النهج السلمي واستسلامها المبكر للتحولات التي جرت نحو العسكرة وتالياً حماسها الطفولي «للانتصارات» التي حققها اللجوء إلى السلاح، الأمر الذي أدى برأيهم إلى الوقوع في الفخ السلطوي وإخضاع الصراع السياسي لقواعد العنف التي يتقنها النظام جيداً، ويسعى من خلالها لعزل الثورة عن دوائر التعاطف، وتسويغ كل أنواع القهر والتنكيل ضدها. زاد الطين بلّة وعزّز تنحية الحقل السياسي وتهميش المجتمع المدني، سلوكُ الفصائل العسكرية التي لم تُعِرْ أيَّ اهتمام للمرجعيات والحسابات السياسية ولم تتأنَّ في اختيار معاركها، بل خاضتها في أماكن مكتظة مدنياً، ما أدى إلى ردود فعل سلبية من حاضنة شعبية صارت عنواناً للحصار والقصف العشوائي، وتالياً خسارة قطاعات اجتماعية ترفض منطق السلاح ويصعب عليها إشهار تأييدها لثورة لا تستمد شرعيتها من ممارسات سلمية وحضارية تنسجم مع شعارات الحرية والعدل والكرامة التي تبنّتها.
بينما وجّه آخرون النقد إلى تأخر المعارضة السياسية في اتخاذ موقف واضح وحاسم من تنامي الجماعات الإسلاموية المتطرفة بما في ذلك الاستخفاف بوزنها وتغطية أدوارها الغامضة إلى أن تمكنت في غير مكان من مصادرة روح الثورة وقيمها، غامزين من هذه القناة إلى بعض قادة المعارضة الذين دافعوا وبشكل صريح عن «جبهة النصرة» بعد أن أُدرجت دولياً في قائمة الإرهاب، أو حين شجع آخرون نشوء تشكيلات عسكرية تدعو لدولة الخلافة وتغاضوا عن شعاراتها الدينية وعن ردود فعلها الطائفية بحجة أولوية مواجهة السلطة، أو حين قللوا من أهمية ما أوردته تقارير حقوقية عن انتهاكات وتجاوزات قامت بها الفصائل المسلحة في أماكن سيطرتها على أنها لا تشكل نقطة في بحر عنف النظام! والأسوأ حين صمتوا عمّا قام به الإسلامويون من تهجير واعتقالات بحق الناشطين المدنيين والسياسيين، بما في ذلك تصفيتهم جسدياً، والأمثلة تبدأ برزان زيتونة ورفاقها، ولم تنتهِ بإعلاميَّي كفر نبل، رائد فارس وحمود جنيد! كل ذلك أفضى برأيهم إلى تشويه معاني الثورة وأفقد الجسم المعارض فئات متعاطفة معه، كانت مترددة ومحجمة بسبب غموض البديل المنشود، لتغدو متخوفة من تمدد سلطة الميليشيات الإسلاموية التي لم تختلف في ممارساتها عن أعتي الديكتاتوريات، ولا يغيّر هذه الحقيقة عند هؤلاء النقاد، وضعُ المسؤولية الأساس في أسلمة الثورة على عاتق السلطة التي تقصدت تسعير الاستفزازات المذهبية وإطلاق قادة وكوادر «الجهاديين» من سجونها، بل يؤكدها انزلاق المعارضة نحو خطاب عنفي تصعيدي، بدأ بالإلحاح على استجرار سلاح نوعي، ولا يزال يشدد المطالبة بتدخل عسكري خارجي لفرض منطقة آمنة! ويؤكدها أيضاً سلوك بعض قادة المعارضة اليوم، الذين لا يجدون ضيراً من استيلاء «جبهة فتح الشام» على آخر معقل مناهض للنظام في مدينة إدلب وأريافها، واصطفوا كالعميان وراء سياسة أنقرة التوسعية والمهادنة للنفوذين الإيراني والروسي، وشكّلوا عملياً، رأس حربتها للتوغل عسكرياً، وتطهير الشريط الحدودي، وبخاصة مدينة عفرين، من أبناء شعبهم الأكراد!
«لقد بالغنا في الرهان على العامل الخارجي وخيار التدخل العسكري» بهذه العبارة يكثّف بعض المعارضين انتقاداتهم، ويتساءلون: ألم يقدنا ذلك إلى الترويج لأوهام سقوط سريع للنظام، تأثراً بما حصل في ليبيا، وما ترتب على ذلك من بناء مواقف وتكتيكات مغامرة وأحياناً متهورة، غيّبت عن قصد أو دون قصد، الخصوصية السورية وتعقيداتها، إنْ من جهة تأثرها بحسابات الجوار الإسرائيلي، وإنْ لجهة ارتباط النظام بمحور نفوذ في المنطقة يمده بكل أنواع المساندة والدعم، وإنْ لجهة ما أظهرته النيات الغربية من ميل لاستثمار استمرار الصراع السوري كمستنقع استنزاف لخصومها بدءاً بروسيا، فإيران وحلفائها، إلى المتطرفين الإسلامويين؟! وألم يؤدِّ البحث عن مصادر التمويل إلى الارتهان والخضوع لإملاءات هذا الطرف الخارجي أو ذاك، وتمثُّل مطالبه، أو السير وفق حساباته وتوقيتاته، ليغدو تبدل مواقفنا وتحالفاتنا السياسية كأنه تلبية لإشارات صدرت منه؟ وأيضاً ألم يفضِ الركون إلى الدعم الخارجي إلى قصور وتراجع اهتمامنا بالتطورات والحاجات الداخلية وبأولوية مواكبة حراك الناس وهمومهم، من دون أن نقدّر خطورة هذا القصور والتراجع في ثورة كثورتنا، جاءت مفاجئة وعفوية، وعطشى لقوى سياسية تتواصل معها مباشرةً وتقودها ميدانياً؟
هي قلة قليلة ذهبت في نقدها إلى البنية التكوينية للمعارضة السياسية التي تعتمل داخلها حزمة من الأمراض خلّفتها عقود طويلة من جور السلطة وظلمها، ما أضعف فرصتها في توحيد صفوفها أو الظهور كقدوة ومثلاً يُحتذى في السلوك الديمقراطي والمثابرة والتضحية، وأشاع صورة لقادتها تضجّ بخلافاتهم الشخصية وبتنافس مرضيّ على المناصب، تفوح منه رائحة الأساليب المتخلفة والمصالح الحزبية الضيقة وظواهر الأنانية والاستئثار وأحياناً الفساد، زاد تلك الصورة سوءاً عجزُ الفكر المعارض عن تقديم رؤية موضوعية لمسار الصراع وللآليات السياسية التي تضع في اعتبارها خصوصية المجتمع السوري بتعدديته القومية والدينية والمذهبية وحساسية ارتباطاته الإقليمية.
واستدراكاً، ليس من خيبة أعظم من خيبة أمل السوريين بمعارضة سياسية توجِّههم وتقودهم، وعجزت مراراً عن معالجة أزماتها ومشكلاتها المزمنة، ولا يغيّر هذه الحقيقة استمرارُ الاعتراف الدولي والعربي ببعض جماعاتها، أو الدور الذي لا تزال تمارسه في حقلَي الإعلام والتفاوض، مثلما ليس من وفاءٍ يقدَّر لثورة السوريين وتضحياتهم خيراً من إجماع المعارضة على مراجعة نقدية شاملة لاستخلاص الدروس والعبر وتعميمها، بما يعيد بناء الثقة بين المجتمع والذات السياسية ويمكّنهما من خوض جولات جديدة نحو التغيير، بأقل الخسائر والآلام.