صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

«رحلة» موسكو فاشلة وزادت الوضع الفلسطيني مأساوية!

خلافاً للاعتقاد الذي ساد سابقاً، فإن دعوة الفصائل الفلسطينية - التي كان عددها 12 فصيلاً، في 2 فبراير (شباط) الماضي، إلى موسكو، حيث التقتْ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونائبه ميخائيل بوغدانوف - لم تكن على الإطلاق من أجل توحيدها، ولا من أجل أن تذهب إلى عملية السلام جهةً واحدةً، فهذه المسألة لم يطرحها الروس إطلاقاً، لأنهم يعرفون أنه من المستحيل توحيد تنظيمات، بعضها تابع لأنظمة عربية وغير عربية، وبعضها لا وجود لها على أرض الواقع، وبعضها الآخر لا يعترف بمنظمة التحرير ولا بالسلطة الوطنية، ويعتبر التفاوض مع «العدو الصهيوني» رجساً من عمل الشيطان لا يجوز الاقتراب منه!!
لقد ذهبتْ إلى هذا الاجتماع وفقاً للدعوة الروسية تنظيماتُ «منظمة التحرير»، التي هي حركة «فتح» أساساً، ومعها «الجبهة الشعبية»، و«الجبهة الديمقراطية»، و«جبهة النضال الشعبي»، التي هي مثل بعض الفصائل الأخرى عبارة عن عناوين فاقعة كبيرة، ولكن من دون أي وجود فعلي، ثم فوق هذا هناك ما يسمى «طلائع حرب التحرير الشعبية - قوات الصاعقة» السورية، التي لم يعد موجوداً منها إلا اسمها، وربما مكتب واحد في دمشق، و«جبهة التحرير العربية»، التي كانت تابعة لـ«بعث العراق»، وهي ليست أحسن حالاً من «الصاعقة».
وأيضاً، فإن هناك «القيادة العامة» بقيادة الضابط السابق في جيش التحرير الفلسطيني، التابع عملياً للقوات المسلحة السورية، أحمد جبريل، التي انشقت باكراً عن «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» بقيادة الدكتور جورج حبش، التي قاتلت وحدها من بين كل التنظيمات الفلسطينية، إلى جانب قوات بشار الأسد بعد انفجار الأزمة السورية عام 2011، مثلها مثل «حزب الله» اللبناني، و«فيلق القدس» الإيراني، بقيادة الجنرال قاسم سليماني.
ولعله معروف؛ لماذا وجّه الروس دعوتهم هذه إلى كل هذه التنظيمات الفلسطينية، التي أصبح بعضها مجرد عناوين بلا أي وجود فعلي، والبعض الآخر لا يعترف بمنظمة التحرير، ولا بأي من هيئاتها، ولا بالمجلس الوطني الفلسطيني، ولا بعملية السلام وما تمخض عنها من سلطة وطنية ومن هيئات ومؤسسات تابعة لها، بما في ذلك سفارات فلسطين في الدول العربية والدول الإسلامية ومعظم دول العالم، ومن بينها كل الدول الكبرى كالصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا، وأيضاً الولايات المتحدة.
الغريب أن الروس يعرفون هذا كله، وأكثر منه، لكنهم بدل أن تقتصر دعوتهم على الفصائل المنخرطة في عملية السلام، وهي حركة «فتح»، و«الجبهة الشعبية»، و«الجبهة الديمقراطية»، وبعض الملحقات الصغيرة الأخرى، وجّهوا هذه الدعوة الآنفة الذكر للفصائل التي تعتبر حمولة زائدة، ولحركة «حماس» التي تعتبر نفسها ويعتبرها الآخرون تنظيماً إسلامياً، وليس فلسطينياً، وحركة «الجهاد الإسلامي» التي كانت آخر وافدٍ على ساحة العمل الفلسطيني، وهناك تأكيدات حقيقية بأنها تابعة لإيران، مع أن مؤسسها الشهيد فتحي الشقاقي كان قبل اغتياله في يالطا عام 1995، وكانت تابعة للجماهيرية الليبية وللعقيد معمر القذافي.
إنه لا شك أن الروس يعرفون هذه الحقائق كلها، ويعرفون أكثر منها، لكنهم وجّهوا دعوتهم هذه، التي لم يكن هدفها وحدة الساحة الفلسطينية، كما يقال، وإنما التفاهم على عملية السلام مع الإسرائيليين، وعلى أن المطلوب هو دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
وهناك من يرى أن هذه الدعوة الروسية الفضفاضة - التي كان مؤكداً وواضحاً أنها لن تسفر عن أي تقدم بالنسبة للعملية السلمية، فرؤوس المدعوين قد تكون مؤتلفة، لكن قلوبهم مختلفة - قد جاءت لإرضاء رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية، الذي كانت روسيا قد وجّهت له دعوة لزيارة موسكو، لكن هذه الدعوة قد تم إلغاؤها من قبل الروس، واستبدلت بهذه الدعوة الفضفاضة، تجنباً لأي انعكاسات سلبية تُظهر الروس كأن لهم علاقات مع التنظيم العالمي لـ«الإخوان المسلمين» الذي بات يعتبر تنظيماً إرهابياً في معظم دول الكرة الأرضية.
وبالطبع، وجّه الروس، ممثلين بوزير الخارجية سيرغي لافروف، وبمساعده ميخائيل بوغدانوف، دعوة خجولة وغير جدية إلى هذا الخليط الفلسطيني ليُنهي انقسامه. وكل هذا وهم. فهم يعرفون أن هذا الانقسام أصبح أبدياً منذ انقلاب «حماس» الدموي على السلطة الوطنية، وعلى «فتح» ومنظمة التحرير في عام 2007، ومنذ أصبحت حركة المقاومة الإسلامية تتلقى الأموال «القطرية» التي ترسل إليها من الدوحة عبر إسرائيل، وبإشراف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
وهكذا، فإن هذه الدعوة الروسية الفضفاضة، التي وضعت كل هذه التعارضات والتناقضات الفلسطينية في سلة واحدة، لم تحقق أي إنجاز فعلي، ولو في الحدود الدنيا، بل إن هذه التعارضات والتناقضات قد ازدادت اتساعاً، والدليل هو أن حركة «حماس» لم تكتفِ بمجرد مضايقة «فتح» ومنظمة التحرير والسلطة الوطنية، بل ذهبت بعيداً باستهداف «الفتحاويين»، بمحاولاتها اغتيال عضو اللجنة المركزية أحمد حلَّس، وعندما فرضت مزيداً من التحفظات على رئيس مكتبها السياسي في قطاع غزة يحيى السنوار، الذي يقال إنه الأكثر تمسكاً بالوحدة الوطنية الفلسطينية.
وعليه، وبالعودة إلى زيارة الوفد الفلسطيني الفضفاض إلى موسكو، وفد الرؤوس المؤتلفة والقلوب المختلفة، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن ممثل حركة «الجهاد الإسلامي» رفض التوقيع على ما تم التوصل إليه مع لافروف وبوغدانوف، وجدد التأكيد على رفض اعتراف حركته بمنظمة التحرير الفلسطينية، ورفض قيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وغزة، في حين أعلن ممثل «حماس» موسى أبو مرزوق أنه لن يوقّع على أي شيء لا توقع عليه حركة «الجهاد الإسلامي»، وتبعه بالطبع مندوب القيادة العامة، ومندوب «الصاعقة»، وتردد أيضاً مندوب الجبهة الشعبية ماهر الطاهر، المقيم في دمشق والمعروف بقربه من التوجهات السورية.
المهم أن زيارة «الوفود» الفصائلية الفلسطينية إلى موسكو لم تسفر عن أي جديد، فالرافضون بقوا يتمسكون برفضهم، والقابلون جددوا التأكيد على قبولهم، في حين اكتفى الروس بمجرد هذه الزيارة الفاشلة، التي بقي غير معروف على وجه التحديد سببُها، وبخاصة في هذه الفترة بالذات، حيث هناك تلويح جديّ بما يسمى «صفقة القرن» التي كان أعلن عنها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، والتي يقال إن الأيام المقبلة ستشهد مزيداً من الضغط على الفلسطينيين؛ السلطة الوطنية ومنظمة التحرير، وعلى بعض الدول العربية المعنية، من أجل الموافقة عليها، من دون أي تعديل ولا تبديل، ولو في مجال المسائل الشكلية.
ويبقى هنا أنه لا بد من التأكيد على أن الوحدة الوطنية الفلسطينية المنشودة ليست متوقعة ولا واردة في هذه المرحلة ولا في أي مرحلة قريبة، فـ«حماس» كما بات واضحاً بعد تشكيل حكومة الدكتور محمد أشتية الأخيرة أنها ذاهبة في الشوط حتى نهايته، وأنها جددت إصرارها على التمسك بشروطها التعجيزية، كي لا يبقى هناك أي مجال إلا مجال حلّ إقامة الدولة الفلسطينية المنشودة في قطاع غزة، وهذا كان واضحاً ومعروفاً منذ أن قامت هذه الحركة بانقلاب عام 2007 الدموي، ومنذ أن ارتدّت قبل ذلك بأشهر قليلة على اتفاقية مكة المكرمة.
كل هذا، بينما قائد «فذّ» لإحدى الجبهات اليسارية لا يزال يجترّ أدبيات الماضي ويطالب «الجماهير العربية» بالخروج إلى الشوارع والميادين لإجبار أنظمتها على عدم الخضوع للهيمنة الأميركية.