وثالثهما المبعوث المتفائل

لا تملك وأنت تتابع كثيراً من المواقف على الساحة الإقليمية والدولية، إلا أن تضحك بينك وبين نفسك، ثم تتساءل عما إذا كانت الأطراف التي تتخذ مثل هذه المواقف، تفترض فيمن يتابعونها عقولاً قادرة على الفرز والتمييز، أم تفترض أنهم بلا عقول تستطيع أن تميز وتفرز؟!
والأطراف التي أعنيها في هذه السطور هي ثلاثة على وجه التحديد. أما الطرف الأول فهو مجلس الشيوخ الأميركي، وأما الطرف الثاني فهي جماعة الحوثي اليمنية، وأما الطرف الثالث فهو المبعوث الدولي إلى اليمن مارتن غريفيث. والثلاثة تضمهم قضية واحدة هي قضية الحكومة الشرعية في عدن، التي يمثل الرئيس عبد ربه منصور هادي مقام الرأس فيها، والتي يعرف عنها الطرفان المُشار إليهما، أنها الحكومة الأحق بالتمكين الكامل في البلد، في مواجهة جماعة حوثية عابثة بحاضر ومستقبل البلد نفسه!
فمجلس الشيوخ فاجأنا، وفاجأ اليمنيين قبلنا، عندما دعا دون مقدمات من جانبه إلى التصويت في الثالث عشر من هذا الشهر، على قرار ينهي الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة لتحالف دعم الشرعية، الذي تقوده السعودية في اليمن!
صحيح أن مستشارين للرئيس ترمب، نصحوا الرئيس في اللحظة التي جرى فيها الإعلان عن التصويت، وعن نتائجه، باستخدام حق النقض الرئاسي، لإفراغ التصويت الذي جرى من مضمونه، ولكن السؤال هنا ليس عما إذا كان ترمب سيستخدم حق «الفيتو» الذي يملكه أم لا، فالغالب أنه سيستخدمه. إن السؤال يظل بجد، عما إذا كان الأعضاء الذين صوتوا داخل المجلس، وعددهم 54 عضواً من أصل مائة، هُم مجمل عدد أعضاء «الشيوخ»، يأخذون قضية دعم الشرعية في بلد مثل اليمن على مأخذ الجد، أم أنهم يأخذونها ويحملونها على محمل آخر، يختلف كل الاختلاف عما تعرفه قواعد القانون الدولي الداعية إلى احترام سيادة الدول في هذا العالم؟!
إن تصويت المجلس على القضية في هذا الاتجاه، يطرح سؤالاً أكبر عن الكيفية التي يرى بها الأعضاء المصوتون قضية العقوبات المفروضة من جانب إدارة بلادهم على إيران، وخصوصاً الأعضاء الذين أيدوا وقف الدعم عن التحالف الذي تقوده المملكة. فالعقوبات الأميركية المفروضة على إيران مفروضة عليها ليس لأن اسمها إيران، مثلاً، ولا لأن واشنطن لا تستظرفها، ولا لأن إدارة ترمب تتقصدها، ولكن لأن للحكومة في طهران ممارسات في المنطقة من حولها، تعمل على تقويض دعائم الدول، وتنشر الفوضى، وتدعم الفكر المتطرف!
فإدارة ترمب تحاول إغلاق كل طريق أمام حكومة الملالي، إلى العبث بأمن الناس في المنطقة، وبالذات في الخليج، وفي العراق، وفي أرض الشام، ولكن مجلس الشيوخ بتصويته يفتح الطرق نفسها التي أغلقتها الإدارة أو حاولت وتحاول إغلاقها في كل يوم، ويقدم هدية مجانية إلى حكم المرشد خامنئي!
وإلا، فما اسم هذا التخريب المتواصل الذي يمارسه الحوثي في أرض اليمن، ثم في محيط أرض اليمن؟! إن إيران لا تخفي دعمها المستمر لجماعة الحوثي، فيما تمارسه من عنف، وتدمير، وتخريب، في أنحاء البلاد، ولا الجماعة من ناحيتها تداري علاقتها بالحكومة في طهران، التي تمدها بكل أسباب الحياة، ومعها كل أسباب الموت للأبرياء من الأطفال، والنساء، والشيوخ في اليمن السعيد، ولذلك يأتي تصويت «الشيوخ» في توقيته وكأنه إشارة إلى الحوثي، بالمضي فيما يمارسه، وإشارة للحكومة الإيرانية بالمضي في دعمه بلا حدود! وعندما تعلن الجماعة هذا الأسبوع، أنها ستستهدف الرياض وأبوظبي بالصواريخ، فهي تقول ذلك مستندة إلى دعم إيراني مؤكد، ومطمئنة إلى وصوله لها؛ لأن جماعة مثلها وبإمكاناتها المجردة، لا تستطيع بقدراتها الذاتية توفير بندقية عصافير لنفسها، فكيف يمكنها تدبير صواريخ على هذه الدرجة من الإمكانات والكفاءة التي تتحدث عنها وهي تهدد بالاستهداف، ثم كيف تجد لديها هذا القدر الظاهر من الجرأة، التي تُزين لها استهداف العاصمتين الكبيرتين بالصواريخ؟!
هذا ما قصدته عند الإشارة إلى الحوثي باعتباره الطرف الثاني، الذي ذهب إلى العاصمة السويدية استوكهولم في ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، ووضع إمضاءه على اتفاق يحمل اسم العاصمة السويدية، وتعهد بالعمل على تنفيذ بنود الاتفاق بمجرد العودة إلى اليمن، وقد مرت ثلاثة أشهر منذ تم التوقيع، بينما الأمر في الحديدة، والموانئ الثلاثة التي تتبعهما، قائم على ما كان عليه قبل التوقيع!
كان المفروض حسب الاتفاق الموقّع، أن تبدأ المرحلة الأولى من إعادة الانتشار في ميناءي صليف ورأس عيسى في مدينة الحديدة، بمجرد العودة من استوكهولم، ولكن هذا لم يحدث كما يجب إلى الآن، وليس من الظاهر أن المرحلة الثانية التي تتحدث عن إعادة انتشار أيضاً في ميناء الحديدة، وفي النقاط الحيوية في المدينة والمحافظة سوف تبدأ قريباً، فالثانية مرتبطة بالأولى وقائمة عليها بحكم طبائع الأشياء، ولا يفعل الحوثيون شيئاً منذ العودة سوى المساومة، وسوى التهرب من المسؤوليات التي قبلوا بها في استوكهولم، وسوى التحلل من كل مسؤولية يضعها على كاهلهم الاتفاق!
وفي أجواء كهذه، يخرج «الشيوخ» الأميركي ليعرض قضية دعم التحالف المؤيد للشرعية، للتصويت، ويصوِّت بالفعل على وقف الدعم، ويدعم بالتالي كل وجوه اللاشرعية التي ترتكبها جماعة حوثية، لا تعرف وزناً لوطن يمني تنتمي إليه. والطرف الثالث، مارتن غريفيث، لا يختلف؛ لأنه لا يزال يروح إلى صنعاء ويجيء، مبعوثاً من الأمم المتحدة، ولا يزال يتحدث عن تردد حوثي في تطبيق ما جرى الاتفاق عليه في السويد، ولا يزال يتحرك في المكان ذاته، ثم لا يجد حرجاً في أن يتكلم، خلال آخر إحاطة قدمها إلى مجلس الأمن قبل أيام، عن أنه متفائل في إنجاز المهمة!
لست متشائماً، ولا أريد أن أكون، ولكن التفاؤل بطبيعته لا بد له من قدمين يقف عليهما ويتساند، حتى لا يكون إغراقاً في الخيال. والرجل المبعوث لا يقدم شيئاً يدعم تفاؤله ويعززه، والأجدى أن يخاطب الأمم المتحدة التي أرسلته، بأن تصويتاً من نوع تصويت «الشيوخ» الأميركي، يجعل مهمته بلا جدوى، ويكافئ الحوثي الجاني، فتكون النتيجة أنه يعاقب من حيث لا يدري، المواطن اليمني المجني عليه، وربما من حيث يدري ويعرف!