منطق الأمس ومنطق اليوم

الجدل المتصاعد هذه الأيام حول مصادر العلم الشرعي لا يرجع للتعارض بين ما حوته تلك المصادر والمعلوم من الدين أو العقل بشكل مطلق. محرك الجدل في اعتقادي هو التعارض بين تلك المحتويات وما يتوقعه الجيل الجديد من المسلمين؛ كانت تلك المحتويات موجودة طيلة القرون العشرة الماضية، على أقل التقادير، لكنها لم تواجه نقداً ومعارضة كاللذين نراهما اليوم، أي أن أهل الأزمان السابقة لم يجدوها متعارضة مع العقلانية السائدة في أزمانهم.
وللمناسبة، فإن المذاهب الإسلامية كافة تشهد جدلاً، محوره التناسب بين مسلمات العلم الديني ومعقولات الزمان. وأذكر للمناسبة النزاع الشديد الذي أثاره عبد الكريم سروش، حين طرح نظريته القائلة بالتمييز بين الجوهري والعرضي في الدين. ووفقاً لهذه الرؤية، فإن الجوهري هو ما لا يقوم الدين إلا به، ولا يكتمل إلا بوجوده، أما العرضي فهو ما ينشأ حول الدين من ثقافة وعلوم وترتيبات اجتماعية أو سياسية وتقاليد وأعراف، وأمثال ذلك مما لا تستقيم الحياة إلا به، لكنه يختلف باختلاف الأزمنة والأماكن.
ويعتقد سروش أن ما يندرج تحت عنوان العرضي خاضع للمعايير نفسها التي تحكم المعارف العادية، مثل كونها غير مقدسة، وكونها مؤقتة، وقابلة للنقد والنقض، وأنها غير واجبة الطاعة إلا بوجود عامل ثانوي.
ولا يقتصر هذا المفهوم على الأحكام الفقهية، فهو يرى أن بعض ما ورد فيه نص طبيعته مؤقتة، وهو مما يسميه الأصوليون القضايا الخارجية، لا الحقيقية، فيجري عليه ما يجري على العرضيات الأخرى.
وبالعودة إلى ما بدأنا به، فالذي يظهر لي أن العامل المحرك للجدل الحالي هو خيبة أمل الجيل الجديد من المسلمين إزاء ما يسمعونه من رجال الدين؛ ينتمي غالبية الدعاة إلى أزمان ثقافية سابقة، ولذا تخلو أحاديثهم من أي شيء ينتسب إلى العصر الحالي، بينما تمتلئ بقصص وشواهد ونصوص لرجال ماتوا منذ مئات السنين. وحين يتحدثون، فإنهم يخاطبون أهل هذا الزمان بما كان معقولاً في الماضي السحيق. سمعت اليوم تسجيلاً منتشراً لداعية بارز، خلاصته أن ولده دخل في غيبوبة، أيس معها الأطباء من حياته أو كادوا، فناوله أخوه تربة من أرض مقدسة، فاستعاد وعيه على نحو أدهش الأطباء.
وكنت قد سمعت مثل هذه القصة عشرات المرات في السنين الماضية، وبعضها منسوب لرهبان مسيحيين وبوذيين، بالتفاصيل نفسها تقريباً. ولا أستطيع تكذيبها، لكني أعلم أن تقديم الإسلام في إطار كهذا يذكر بعصور السحر والأساطير التي نرى تمثيلاتها في الأفلام، وليس إلى هذا العصر. يؤمن بهذه القصص من تهفو أرواحهم إلى تلك العصور. أما من ينتمي لثقافة هذا الزمان، فسوف يعاملها كقصة تروى للتسلية، لا أكثر.
التفارق الذي أشرت إليه لا يتعلق بأسلوب الخطاب، بل بإهمال الفكرة الدينية لمقولات العقلانية المعاصرة وأدواتها، مثل العقل النقدي والقياس المادي والتجربة.
يقول المدافعون عن التراث الديني: إن كل ما ورد عن النبي ملزم لنا، ولو تعارض مع العلم والمنطق. وأعلم أنهم مضطرون لتكرار هذا القول لأنه أساس المنطق القديم، لكن كيف نتأكد أن هذا فعلا ورد عن النبي. لذا... ماذا لو فكرنا بطريقة مختلفة، لو حررنا عقولنا من هذا المنطق، وبحثنا في الاحتمالات البديلة، ألا نستطيع التوصل إلى منطق جديد يحفظ جوهر الشريعة، ويستوعب مقولات العصر وعقلانيته، في آن واحد؟ هل يحتمل إسلامنا منطقاً جديداً أم هو أسير لمنطق الماضي؟