هكذا تصطاد فرنسا رؤوس «القاعدة» في الساحل الأفريقي

مقتل الجزائري أبو الهمام يعدّ أكبر ضربة موجعة تلقاها التنظيم الإرهابي

رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب ووزيرة الدفاع فلورنس بارلي يستعرضان قوات بلدهما في قاعدة «براكين» العسكرية الفرنسية بمالي نهاية فبراير في جزء من زيارة استغرقت يومين (أ.ف.ب)
رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب ووزيرة الدفاع فلورنس بارلي يستعرضان قوات بلدهما في قاعدة «براكين» العسكرية الفرنسية بمالي نهاية فبراير في جزء من زيارة استغرقت يومين (أ.ف.ب)
TT

هكذا تصطاد فرنسا رؤوس «القاعدة» في الساحل الأفريقي

رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب ووزيرة الدفاع فلورنس بارلي يستعرضان قوات بلدهما في قاعدة «براكين» العسكرية الفرنسية بمالي نهاية فبراير في جزء من زيارة استغرقت يومين (أ.ف.ب)
رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب ووزيرة الدفاع فلورنس بارلي يستعرضان قوات بلدهما في قاعدة «براكين» العسكرية الفرنسية بمالي نهاية فبراير في جزء من زيارة استغرقت يومين (أ.ف.ب)

ينفق الفرنسيون 700 مليون يورو كل عام على محاربة الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، وينشرون هنالك 4500 جندي في إطار عملية «برخان» التي تعدّ أكبر عملية عسكرية تخوضها فرنسا خارج أراضيها، كل ذلك من أجل مواجهة خطر الجماعات المتطرفة المسلحة، التي تشكل تهديداً حقيقياً للمصالح الفرنسية في هذه المنطقة من العالم التي كانت قبل 60 عاماً تحت الاستعمار الفرنسي، ولا تزال منطقة نفوذ ومصدر قوة ترفض فرنسا التخلي عنه.
وقد تحولت منطقة الساحل الأفريقي، وشمال مالي على وجه الخصوص، إلى ساحة لمواجهة مباشرة بين الجنود الفرنسيين ومقاتلي «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، في حرب شرسة بدأت مطلع عام 2013 عندما حاول المسلحون المتطرفون الزحف على عاصمة مالي باماكو في الجنوب، بعد 6 أشهر من سيطرتهم على شمال البلاد، ولكن الفرنسيين منعوا ذلك عندما أطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية التي تحولت عام 2014 إلى عملية «برخان».
اليوم يحس الفرنسيون بطعم النصر، وإن بحذر كبير، عندما تمكنت قواتهم من قطف كثير من رؤوس «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» الكبيرة، خصوصاً تلك الرؤوس التي كانت تشكل تهديداً مباشراً لمصالحهم في هذه المنطقة من العالم، وكان آخرها الجزائري جمال عكاشة، المعروف بلقب «يحيى أبو الهمام»، الذي قتلته قوات خاصة فرنسية مساء الخميس 21 فبراير (شباط) الحالي، في ضربة موجعة تلقاها تنظيم القاعدة؛ على حد وصف وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بيرلي.

الرؤوس الكبيرة
كانت خطة الفرنسيين لمحاربة الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي تقوم على استهداف القادة الكبار بدل الانشغال بمطاردة صغار المقاتلين والمتعاونين المحليين مع هذه التنظيمات التي استطاعت خلال نحو 10 سنوات التغلغل في المجتمع المحلي بشمال مالي، حيث تغيب الدولة المركزية وينتشر الظلم الاجتماعي والفقر والجهل والمرض.
وقد أثمرت خطة الفرنسيين بعد أيام قليلة من تدخلهم العسكري في شمال مالي في يناير (كانون الثاني) من عام 2013، حين تمكنت قواتهم بالتعاون مع القوات التشادية من قتل الجزائري محمد غدير، الملقب بـ«عبد الحميد أبو زيد»، أمير «كتيبة الفرقان» التابعة لـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، والذي اختطف عدداً كبيراً من الرعايا الفرنسيين وكان وراء مقتل الرهينة الفرنسي ميشال جورمانو عام 2011، ووصفه الفرنسيون بأنه عدوهم الأول في الساحل الأفريقي؛ إذ تمكن من الحصول على عشرات ملايين اليوروات من تجارة الرهائن الفرنسيين.
مقتل «أبو زيد» في مواجهات مسلحة داخل جبال الإيفوغاس في أقصى شمال شرقي دولة مالي، ألحق ضرراً كبيراً بـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»؛ إذ فقد واحداً من أبرز قادته، بينما أرغم آخرون على الفرار والاختباء، على غرار الجزائري مختار بلمختار المعروف بلقب «بلعوار»، الذي توجه إلى الجنوب الليبي تاركاً شمال مالي منذ أن دخله الفرنسيون، إلا إن الجزائري جمال عكاشة المعروف بلقب «يحيى أبو الهمام»، الذي قتل الخميس الماضي، أصر على البقاء برفقة عدد كبير من المقاتلين الموريتانيين والماليين، وتولى «أبو الهمام» إمارة «كتيبة الفرقان»، قبل أن يصبح قائداً لـ«إمارة الصحراء الكبرى» في إعادة هيكلة قام بها «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» للتأقلم مع الوضع الجديد.
عندما تدخل الفرنسيون في منطقة الساحل الأفريقي قبل أكثر من 6 سنوات كان عدد مقاتلي «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» يقدر بالمئات؛ حسب كثير من التقارير الاستخباراتية، موزعين على كتائب وفرق صغيرة وخفيفة الحركة، فيما تشير تقارير وزارة الدفاع الفرنسية إلى أنه في الفترة الممتدة من 2014 وحتى 2018؛ أي على مدى 4 سنوات فقط، تم القضاء على 450 مقاتلاً، من ضمنهم عشرات القيادات البارزة في التنظيم؛ بعضها قيادات عسكرية وأخرى قيادات دينية وقضائية.

قائمة رمادية
الحصيلة الفرنسية تشير إلى أنه بعد عام واحد من إطلاق عملية «برخان»؛ أي في عام 2015، قتل «حمادة أغ حمه»، المعروف بلقب «عبد الكريم الطارقي»، وهو مالي الجنسية وكان يتولى قيادة «كتيبة الأنصار» التابعة لـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، كما قُتل أيضاً إبراهيم أغ إيناولين، المعروف بلقب «بانا»، وهو الذي كان يوصف بأنه الرجل الثاني في جماعة «أنصار الدين» التي يقودها الزعيم الطارقي السلفي إياد أغ غالي، وفي نهاية العام نفسه قتل الفرنسيون عيسى أغ واراكولي، وهو قيادي بارز في جماعة «أنصار الدين»، وعسكري سابق في الجيش المالي... إنها ضربات موجعة تلقتها أبرز مجموعة متحالفة مع «القاعدة» ومكنته من الاندماج والتغلغل في المجتمع المحلي.
في العام الموالي (2016) شن الفرنسيون عملية عسكرية عند بئر تقليدية للمياه تقع إلى الشمال من مدينة تمبكتو التاريخية، قتل فيها «أبو النور الأندلسي» وهو مواطن إسباني يتولى مهام عسكرية قيادية في «كتيبة الفرقان» التابعة لـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، كما قتل أيضاً «مروان المصري»، وهو مواطن مصري ينشط في صفوف «القاعدة»، ويعتقد أنه يتولى التكوين والتأطير العسكري والآيديولوجي.
واصل الفرنسيون تحركهم الهادئ لقطف الرؤوس الكبيرة في التنظيم؛ ففي عام 2017 قتلوا 120 من عناصر «القاعدة»، وألقوا القبض على 150 آخرين، تم التحقيق معهم لفترات متفاوتة قبل تسليمهم إلى المصالح الأمنية في دولة مالي، كما صادرت القوات الفرنسية في العام نفسه أكثر من 22 طناً من الأسلحة والمعدات العسكرية كانت بحوزة مقاتلي التنظيم، وبعضها تم إخفاؤه في كهوف وسط الصحراء، وتشير التقارير إلى أن أغلب هذه الأسلحة يعود إلى نظام العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، وبعضها تم الحصول عليه من طرف شبكات تهريب السلاح المنتشرة في المنطقة.
في العام نفسه توسعت عمليات القوات الفرنسية لتشمل بالإضافة إلى شمال مالي، شمال بوركينافاسو وغرب النيجر، وقد نجحت قوات «برخان» بالتعاون مع القوات المالية والبوركينابية في قتل إبراهيم مالام ديكو، وهو داعية وإمام مسجد في بوركينافاسو لديه علاقات مشبوهة مع دولة قطر، وتشير تقارير إلى أن صلاته بالدوحة مكّنته من تأسيس مجموعة مسلحة تحمل اسم «أنصار الإسلام» وتنشط في شمال بوركينافاسو، وسبق أن بايعت تنظيم «داعش»، وتولى قيادة المجموعة بعد مقتله نجله الشاب الذي وصف بأنه أكثر دموية؛ إذ يقف وراء كثير من الهجمات التي تنفذ في شمال وشرق بوركينافاسو والتي يقدر ضحاياها بالعشرات.

ارتفاع الوتيرة
في العام الماضي (2018) غير الفرنسيون من استراتيجيتهم، محاولين بذلك التغلب على أكبر نقطة ضعف عندهم؛ وهي أن «تحركاتهم متوقعة»، وأنهم ثقيلو الحركة بالمقارنة مع الجماعات الإرهابية السريعة والخفيفة، كما توجه الفرنسيون إلى إطلاق عمليات عسكرية معقدة وطويلة الأمد؛ إذ قد تمتد العملية العسكرية الواحدة لأكثر من شهر، وفق تعبير قيادة أركان الجيش الفرنسي.
لقد غير الفرنسيون خطتهم تماشياً مع التحالفات التي عقدتها المجموعات الإسلامية المسلحة لتشكيل جماعة جديدة حملت اسم «نصرة الإسلام والمسلمين»، ويتولى قيادتها الزعيم الطارقي إياد أغ غالي، وقد وضع الفرنسيون أسماء قادة هذا التنظيم الجديد على رأس قائمة المطلوبين لديها، وبدأت الخطة لقطف رؤوس التنظيم الجديد.
وفي منتصف العام الماضي قتل الفرنسيون أبو محمد أغ سيدي مولى، وهو داعية وقيادي في جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وقتل أيضاً منصور أغ القاسم وهو قيادي بارز في جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، كما قتل خلال عملية عسكرية معقدة نفذها الفرنسيون في أقصى الشرق المالي محمد أغ المنير، وهو قيادي بارز في «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
في نهاية العام الماضي كانت الضربة الكبرى التي نفذها الفرنسيون حين تمكنوا من قتل المالي أمادو كوفا، زعيم «كتيبة ماسينا»، وهو أحد القادة الأربعة المؤسسين لجماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وقد قتل في عملية تم خلالها القضاء على أكثر من 30 إرهابياً؛ منهم عدد من القيادات العسكرية للكتيبة التي تنشط في وسط مالي.
الفرنسيون يتحدثون عن انتصارات أخرى كثيرة على المستوى «التكتيكي» و«الاستراتيجي»، من أهمها تعزيز مستوى التنسيق والتعاون مع الجيوش المحلية لبلدان الساحل الخمسة (موريتانيا، ومالي، والنيجر، وتشاد، وبوركينافاسو)، ويقول الفرنسيون إن هذا التنسيق مكنهم في عام واحد من القضاء على قادة 3 كتائب رئيسية نشطة في جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، ويتعلق الأمر بقادة: «كتيبة ماسينا»، و«الكتيبة الثالثة»، وجماعة «المرابطون»، كما تم القضاء على كثير من القادة والمنخرطين في صفوف «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».

نجاح بتحفظ
إحساس الفرنسيين بالنصر يبقى ناقصاً في ظل غياب خطة للانسحاب وإعلان النصر نهائياً، فالجماعات المسلحة لديها قدرة كبيرة على تجديد الدماء والتأقلم مع الأوضاع الصعبة، ويراهن الفرنسيون لمواجهة هذه الجماعات الإرهابية في المستقبلين المتوسط والبعيد، على الجيوش المحلية لأخذ المبادرة، وذلك من خلال تشكيل «قوة عسكرية مشتركة»، ولكنها قوة لا تزال تعاني من مشكلات في التمويل والتدريب والتأطير.
ويشير تقرير صادر عن وزارة الدفاع الفرنسية إلى أن العمليات التي نفذتها القوات الفرنسية في الساحل «لم تمكّن فقط من خلق حالة من التشتت العميق في صفوف الجماعات المسلحة الإرهابية، وإنما أيضاً شجعت الماليين والنيجريين على مضاعفة جهودهم في مواجهة هذه الجماعات الإرهابية، ومكنتهم من استعادة السيطرة على مناطق واسعة من أراضيهم».
ويبدو واضحاً أن الفرنسيين غير متحمسين للاستمرار في دفع فاتورة الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، فالتقارير الرسمية الفرنسية تشير إلى أنه في العام الماضي وحده شن الفرنسيون أكثر من 120 عملية عسكرية، وحركت في هذه العمليات إمكانات لوجيستية هائلة بسبب المسافات الشاسعة في منطقة الساحل الأفريقي، وقد شاركت فيها طائرات حربية متنوعة، بالإضافة إلى مروحيات كثيرة من طرز «تايغر» و«بوما» و«غزال»، مع استخدام تجهيزات استخباراتية متطورة... إنها فاتورة كبيرة يبحث الفرنسيون عن شريك في دفعها من خلال تمويل دولي للقوة العسكرية المشتركة التي شكلتها دول الساحل الخمس (موريتانيا، ومالي، والنيجر، وتشاد، وبوركينافاسو).


مقالات ذات صلة

5 نزاعات منسية خلال عام 2024

أفريقيا عناصر من الجيش السوداني خلال عرض عسكري (أرشيفية - أ.ف.ب)

5 نزاعات منسية خلال عام 2024

إلى جانب الحربين اللتين تصدَّرتا عناوين الأخبار خلال عام 2024، في الشرق الأوسط وأوكرانيا، تستمر نزاعات لا تحظى بالقدر نفسه من التغطية الإعلامية.

«الشرق الأوسط» (باريس)
العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».