الشخصيات الغريبة للأخوين كووَن قلقة وطموحة ومعزولة في وقت واحد

فيلمهما الجديد على أبواب الجوائز

جورج كلوني في «أيها الأخ.. أين أنت؟»
جورج كلوني في «أيها الأخ.. أين أنت؟»
TT

الشخصيات الغريبة للأخوين كووَن قلقة وطموحة ومعزولة في وقت واحد

جورج كلوني في «أيها الأخ.. أين أنت؟»
جورج كلوني في «أيها الأخ.. أين أنت؟»

أحد أكثر الأفلام احتفاء هذا العام هو «داخل ليووَن ديفيز» وذلك منذ عرضه في مهرجان كان الفرنسي ربيع عام 2013 وإلى اليوم حيث هو معزّز بترشيحات النقاد والغولدن غلوبس و - بلا ريب - سيكون أحد الأفلام التي سيعلن ترشيحها رسميا إلى الأوسكار بعد نحو شهر من الآن.
«داخل ليووَن ديفيز» عمل جيّد جدا على أكثر من مستوى، وفي المقدّمة مستوى تعامل المخرجين الشقيقين مع الشخصية الرئيسة التي هي ترداد معيّن لشخصياتهما الأخرى في أكثر من فيلم سابق لهما.
شخصيات الأخوين إيتان وجووَل كووَن المتكررة في أفلامهما، هي لتلك المهزوزة وذات الخطوات غير الواثقة في الحياة. أحيانا هي الشخصيات التي يصح القول عنها إنها «همشرية». ليست هامشية أو مهمشة حتى ولو لم تكن في الصدارة أو فوق عادية، ولا يهتم الأخوان كووَن لهذه الميزة أساسا لأنها تتطلب كتابات مختلفة. ما يهمهما أن هذه الشخصيات تتعامل عادة مع دواخلها ولا تستطيع دخولها. لا تعرف ما تريد ولا هي واثقة من أن المجتمع الذي تعيش فيه سيؤمن لها ما تبحث عنه حتى إذا ما عرفته تحديدا.
هذا المنوال من الشخصيات نجده في تلك التي لعبها جون تورتورو في «بارتون فينك» (1991) وفي تلك التي أدّاها تيم روبنز في «هدساكر بروكسي» (1994) وجف بردجز في «ليبوڤسكي الكبير» (1998) وهو الدور الذي جسّده مايكل ستولبيرغ في «رجل جاد» (2010) كما هو في شخص ليووَن ديفيز في فيلمهما الحالي «داخل ليووَن ديفيز» كما يؤديه أوسكار أيزاك.
هذا ممارس في نحو نصف الأعمال التي يكتبانها وينتجانها ويخرجانها معا حتى حينما يتولّى أحدهما بعض الجوانب ويتولى الثاني جوانب أخرى. النصف الثاني متنوّع. شخصياته مختلفة فيها أحيانا نتف من شخصيات أخرى بعضها في أفلامهما والبعض الآخر مستوحى. هذا واضح في «تربية أريزونا» (1984) و«عبور ميلر» (1990) و«فارغو» (1996) و«أيها الأخ، أين أنت؟» و«قسوة بالغة» (2003) و«قتلة السيّدات» (2004) ثم «لا بلد للمسنين» (2007) و«أحرق بعد القراءة» (2008) و«عزم حقيقي» (2010).

الحي والميت

وُلد جووَل في التاسع والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1954 وولد إيثان في الحادي والعشرين من سبتمبر (أيلول) سنة 1957 وترعرعا في ضواحي مدينة مينيابوليس. يتولى المراجعون القول إنهما أحبا السينما منذ الصغر. جووَل اشترى كاميرا سوبر 8 ومعا انطلقا يصوّران أفلاما يستمدان قصصها مما شاهداه على شاشة التلفزيون. في عام 1981 اشتغل جووَل مساعد مونتاج في فيلم سام ريمي The Evil Dead وبعد ذلك بثلاثة أعوام حققا فيلمهما الروائي الطويل الأول «دم بسيط» Blood Simple
هذا اختصار لتاريخ شخصين لا يخرج عن كونه عاديا في مطلق الظروف. لكن الموهبة التي أبدياها لاحقا لا يمكن نكرانها. بل حتى منذ فيلمهما الأول سنة 1984 عكسا ذلك القدر المناسب من الإلمام ليس بالكيفية فقط بل بالاحتياجات الإنتاجية لتكوين الصورة المناسبة للفيلم الواحد.
أفلامهما متعددة لا في القصص وحدها بل في الأنواع وفي المكان وأحيانا كثيرة في الزمان. وعلى سبيل المثال فقط فإن «دم بسيط» فيلم نوار تكساسي، «بارتون فينك» كوميدي داكن تقع أحداثه في لوس أنجليس الخمسينات، «نشأة أريزونا» كوميدي آخر من نفس النبرة الداكنة تقع أحداثه في أريزونا و«فارغو» بوليسي تقع أحداثه في بلدة فارغو في ولاية نورث كارولاينا. لكن إذا ما كان هناك موضوع جامع بين الأفلام جميعا، فهو تلك الدكانة التي تطغى على الأماكن والأجواء والأحداث والشخصيات بعضها على بعض.
شخصيات الأخوين كونها مبنية على هذا الأساس توفر بعدا من العدمية. رجل القانون في «لا بلد للمسنين» (تومي لي جونز) والقاتل الطليق (جافييه بارنام) وجهان لعملة واحدة في هذا الإطار. لا الأول في صدد بناء عالم بلا جريمة ولا الثاني لديه أي احتمال لأن يعي مغبة ما يقوم به فيقلع عنه. في «دم بسيط» التحري المخادع (م. إيمَت وولش) ولا الزوج (دان هدايا) الذي يريد التخلّص من زوجته (فرنسيس مكدورماند - زوجة جووَل كووَن الفعلية) شخصيتان تصلحان للاحتذاء بأي منهما ولا الزوجة في هذا الفيلم المبني على شك الزوج، الذي يملك الحانة، بخيانة زوجته مع مدير عمله، أكثر من انعطاف جديد في الحكاية التقليدية حول الزوج الذي يستأجر تحريا خاصا وقاتلا للتخلص من زوجته وعشيقها على عكس أغنية «ذا فور توبس» التي نسمعها في الختامات (كما في مشهد تنظيف العشيق لمسرح الجريمة بعد اكتشافه مقتل رئيسه معتقدا أن الزوجة هي القاتلة) والمعنونة «إنها الأغنية القديمة ذاتها» It‪'‬s the same old song لأن من يحيا ومن يموت هو أمر آخر يتدخل فيه الأخوان عنوة. لذلك وبينما يبنيان حكايات جديدة النوع ومتعوب على سيناريوهاتها، يميلان إلى استخدام شخصيات يجعلانها عرضة للسخرية (وأحيانا للكراهية أو عدم الاحترام كما حال الشخصيتين الرئيستين في «قسوة لا تطاق» (2003) وليس منها من هو إيجابي. حتى تلك المحتارة والقلقة والمسكينة في «بارتون فينك» و«رجل جاد» و«داخل ليوتن ديفيز» يوفّر لها الأخوان عوامل إدانة من صميم ما يخالجها من لا يقين.

النوع الطاغي

جزء من المشكلة هنا هي ميل الأخوين إلى صنع شخصياتهما من خيالهما وليس من الواقع ما يكشف أن علاقتهما الاجتماعية والوجدانية مع العالم المحيط (مع البشر في هذا العالم تحديدا) ضيقة ومنطوية (كحال بعض أبطاله مثل جون تورتورو في «بارتون فينك» وجف بردجز في «ليبوفسكي الكبير» أو جافييه باردام في «لا بلد للمسنين»). في حين أن عدم الاستعانة بشخصيات واقعية مسألة تحتم استخدام شخصيات يمكن إجبارها على التصرّف حسب الرغبات الخاصة للأخوين كووَن، إلا أن الحسنة هنا هي وجود شخصيات مثيرة للاهتمام حتى وإن لم تثر الإعجاب.
في الواقع لا يقدّم المخرجان أي شخصية يمكن أن تثير الإعجاب ومراجعة أعمالهما كافة تؤكد ذلك. وذلك باستثناء محدود لشخصية فرنسيس مكدورماند في «فارغو» (حكاية شريف بلدة امرأة عنيدة في متابعة تحقيقها حول ألاعيب بائع سيارات استأجر قاتلين لخطف زوجته) وليس - مثلا - في «أحرق بعد القراءة» (امرأة لديها وثائق سريّة تقوم بتسريبها إلى مسؤولين في السفارة الروسية).
لا عجب إذن أن أفلامهما حتى الآن (تسعة عشر عملا روائيا) تخلو من سيرة حياة. والغالب أنهما لن يقبلا على هذا النوع من الأعمال مطلقا.
هذا ما يقودنا إلى سينما الأنواع التي عمد إليها الأخوان كووَن إلى اليوم مع العلم أن تقييم كل فيلم على حدة، وبعد الإلمام بما يجمعها من أمارات وملامح، سيكشف عن أنها ليست متساوية نوعيا وكأعمال فنية.
النوع الطاغي هو النوع البوليسي وتحت مظلته نجد أنماطا أصغر «دم بسيط» (فيلم نوار) و«عبور ميلر» (غانغستر) فـ«فارغو» (جريمة بوليسية)، و«الرجل الذي لم يكن هناك» (جريمة) و«لا بلد للمسنين» (فيلم نوار حديث)، «أحرق بعد القراءة» (تشويق عام).
النوع التالي كوميدي ساخر وبعض منه نافذ إلى كل ما سبق كنبرة داخلية. وهذا النوع نجده في «نشأة أريزونا» و«بارتون فينك» (عن هوليوود) و«رئيس هدسكر» (عن المؤسسة) و«ليبوفسكي الكبير» (عن شخصية لا مكان لها في المجتمع السائد) ثم «أيها الأخ، أين أنت» (عن سجناء هاربين) و«قسوة بالغة» (كوميديا اجتماعية) و«قتلة السيدة» (كوميديا بوليسية) و«أحرق بعد القراءة» (كوميديا جاسوسية) و«رجل جاد» (سخرية من الشخصية اليهودية علما بأنهما يهوديان).
الفيلمان الباقيان من هذا الجمع هما «عزم حقيقي» (2010) و«داخل ليووَن ديفيز» (2013). الأول وسترن والثاني أكثر جدّية في الحديث عن الحلم الأميركي الذي لا يمكن تحقيقه.. ليس مع شخصيات من تلك التي يبتكرها المخرجان.

عالم للصغار

القول إنهما أخرجا أفلاما كوميدية لا يعني أنهما أخرجا أفلاما للضحك. المرء لا يضحك كثيرا في أي من تلك المواقف التي يحشدانها في «قتلة السيدة» أو «أحرق بعد القراءة» أو «قسوة لا تطاق». من ناحية تسليتهما مشروطة ومن أخرى تمتزج القسوة والدكانة والسخرية من الشخصيات ومما تتعرض إليه بحيث تجعل الضحك البريء صعبا إن لم يكن مستحيلا.
معظم ما حققه المخرجان من أفلام هو من كتابتهما معا (في «رئيس هدسكر» بالمشاركة مع المخرج سام رايمي) لكن هناك اقتباسان روائيان هما «لا بلد للمسنين» المأخوذ عن رواية لكورماك مكارثي و«عبور ميلر» المقتبس عن روايتين لداشيل هاميت هما «حصاد أحمر» و«مفتاح زجاجي». الرواية الثانية كان أخرجها فرانك تاتل فيلما من بطولة جورج رافت سنة 1934 وأعاد بعثها إلى الشاشة ستيوارت هايسلر سنة 1942 من بطولة ألان لاد.
فيلمان من مجموعة أعمال كووَن هما إعادة صنع لفيلمين سابقين وهما «قتلة السيّدة» المنقول، بتصرّف، عن «قتلة السيّدة» كما أخرجه ألكسندر ماكندرك سنة 1955 (من بطولة أليك غينس وهربرت لوم وبيتر سلرز وسيسيل باركر من بين آخرين) والثاني «عزم حقيقي» True Grit المأخوذ عن فيلم وسترن شهير لهنري هاذاواي (1969). والأصل أفضل من النسخة الجديدة لكلا الفيلمين.
لكن ذلك لا يعني أن عوالمهما ليست مشيّدة بناء على معطيات أدبية أو فنيّة. «دم بسيط» يحمل في جوانبه عالم الكاتب البوليسي جيمس و«عزم حقيقي» هو وسترن يقترب من التقليدي، وفي «رئيس هدسكر» ملامح من سينما برستون ستيرجز الاجتماعية.
كل هذه الأفلام لا تتساوى فنا ومن منطلقات نقدية مع بعضها البعض.
يخسر المخرجان أميالا عدّة عندما يطآن أرض مدينة كبيرة كحال «رئيس هدسكر» و«قسوة لا تطاق». هما أنجح حين يؤمّان عالما ريفيا في بلدات صغيرة كما الحال في «فارغو» أو «لا بلد للمسنين» أو «دم بسيط». حتى «بارتون فينك» أفضل من «ليوفسكي الكبير» وكلاهما يدور في مدينة لوس أنجليس لكنها لوس أنجليس الأربعينات في الأول: أصغر، أبسط، أكثر طواعية لعالم مصنوع (وليس واقعيا) بشخصياته الخارجة من الورق.
شخصيات آل كووَن شخصيات حالمة ومحبطة حتى قبل إخفاقها: بارتون فينك (تورتورو) كاتب سيناريو غير معروف موعود فجأة بالشهرة التي لا تتحقق. ليبوفسكي (جف بردجز) شخص يعيش أوهامه منعزلا إلى أن يكتشف أنه محط خطأ في الهوية ما يجعله مهددا بالقتل. الشريفان إد توم (تومي لي جونز) في «لا بلد للمسنين» ومارج (فرنسيس مكدورماند) في «فارغو» رجلا قانون ليس لديهما خيار ولا وهم بالإنجاز. وأبطال «دم بسيط» و«الرجل الذي لم يكن هناك» و«يا أخ، أين أنت؟» و«أحرق بعد القراءة» مخدوعون لا ينجزون ما يحلمون به خيرا أو شرّا.
هذا ما يعيدنا إلى كنه هذه الشخصيات الحائرة والقلقة وغير الواثقة. نسبة إلى المخرجين في بعض تصاريحهما، هذه الشخصيات مفضلة لأنها أكثر «حقيقية» من شخصيات هوليوود المعتادة. لا بطولة في شخصيات كووَن صغيرة أو كبيرة لأن المفهوم غير صحيح في الأصل. تفسير لا يمكن سوى احترامه مع الحذر منه في الوقت ذاته. فمعاداة النمط الهوليوودي قد يمضي في سبيل توفير شخصيات لا تعمل بالضرورة ضمن المنطق. لكن ما يحتاجه إيثان وجووَل كووَن هو بالتحديد هذا المضي لتعزيز شخصيات لا تنتمي إلى السائد (في الوقت الذي قاما به بتحقيق أفلام أريد لها أن تكون جماهيرية بحتة مثل «عزم حقيقي» و«قتلة السيّدة» و - خصوصا - «قسوة لا تطاق»).
في إطار الشخصيات المخفقة يأتي فيلمهما الأخير «داخل لووَن ديفيز» حول مغني غيتار منفرد في مطلع الستينات، وللون غنائي أميركي معروف باسم «كانتري أند وسترن». ليس نجما ولا حتى مطربا معروفا على نطاق معين، بل ساع يتخبط بين ما هو وهم وما هو واقع. وهو ليس على وتيرة مسالمة مع الآخرين، بل يتسبب دائما في إزعاجهم ولو أنه لا يعرف ذلك معرفة وثيقة. كل ما يعرفه أن لديه رأيا فوقيا حين يصل الأمر إلى وضع الآخرين حياله ووضعه في المجتمع الذي يضن عليه، تبعا لتفكيره على الأقل، بالفرص. هذه الشخصية هي أقرب إلى شخصيّتي كووَن السينمائيتين على الأقل، علما بأن ما هو سينمائي منسوج مما هو شخصي.
كووَن كثيرا ما يضعا البطل ضد النظام لكنه لن ينتصر لأن النظام أقوى.
الكاتب جون تورتورو ضد المنتج مايكل لرنر في «بارتون فينك».
الخريج الجديد تيم روبنز ضد مسؤول المؤسسة الاقتصادية بول نيومان في «رئيس هدسكر».
مايكل شتولبيرغ ضد المؤسسة الدينية في «رجل جاد» (مصطلح يعني بالعبرية «يهودي مؤمن») والمؤسسة المدرسية في بلدته الصغيرة.
وسنجد أن عددا من شخصيات الأخوين كووَن الأخرى ضد كل شيء مؤسس مسبقا. بكلمات أخرى، عالم يصنعه الأخوان كووَن يحاول أن يكون بديلا لعالم موجود ويخفق.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».