طائرة بغداد ـ العلا... رحلة ناجحة في المدار العربي

هي مجموعة من صور «السيلفي» التذكارية العادية التي يُلتقط مثلها يومياً عشرات الآلاف على متون الطائرات لمختلف شركات الطيران عابرة الأجواء والحدود فوق القارات... هذه الصور المنشورة في صفحات التواصل الاجتماعي لعراقيين في الأيام الأخيرة مُلتَقطة داخل طائرة مدنية خاصة أثناء رحلة غير مألوفة. العراقيون الظاهرون في الصور عددهم يزيد على عشرين، نساءً ورجالاً، وقد طفحت وجوههم بعلامات البِشر. هم جميعاً ليسوا مسافرين عاديين... معظمهم شخصيات مرموقة، يعرفون بعضهم بعضاً جيداً مثلما هم معروفون ومقدّرون في العراق وخارجه، فهم ممثّلون ومخرجون وكتّاب في قطاعات المسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون وموسيقيون ومغنون وصحافيون وسواهم من العاملين في هذه القطاعات والقطاعات المساعدة.
صور كهذه مألوفة في العالم كلّه، فعلى الدوام تسافر مجموعات من الفنانين والكتاب للمشاركة في مسابقات وفعاليات أدبية وسينمائية ومسرحية. مثل هذا يحدث على مدار السنة في أوروبا واليابان وأميركا وأفريقيا مثلاً، وفي عالمنا العربي أيضاً حيث مهرجانات السينما والمسرح والموسيقى والغناء ومعارض الكتب.
مع ذلك، الصور التي نشرها بعض الفنانين المشاركين في الرحلة هذه أثارت حفيظة البعض في العراق ممن اختاروا أن يشنّوا حملة ضد الركّاب، رغم نوعيتهم المميّزة، بل بسبب نوعيتهم هذه... والسرّ يكمن فقط في وجهة الرحلة وفي المناسبة التي استقلّ الفنانون والكتاب العراقيون الطائرة للمشاركة في أحداثها الفنية.
أما الوجهة فمدينة العلا التاريخية السعودية، وأما المناسبة فالاحتفالية الكبيرة بإطلاق قناة «MBC العراق» (الأحد الماضي) المُعلن عنها منذ مدة، وهي قناة انتدِبت للعمل فيها وإعداد برامج لها نخبة من الفنانين والفنيين والكتاب العراقيين، ولم تكن مشروعاً سرياً.
أصحاب الحملة عابوا على الفنانين والكتّاب مشاركتهم في مشروع تلفزيوني سعودي (قناة عامة ترفيهية) هو الوحيد الموجّه إلى العراق، الذي يزدحم فضاؤه الآن (بل منذ خمس عشرة سنة) ببثّ العشرات (55) من القنوات التلفزيونية الإيرانية أو العراقية الممولة مباشرة من إيران، فضلاً عن محطات راديو وصحف ورقية وإلكترونية، وهي جميعاً موجَّهة سياسياً ودينياً ومذهبياً.
الحملة سبقت رحلة الطائرة المسافرة من مطار بغداد الدولي إلى مطار العلا المحلي بأيام، فهي انطلقت منذ اللحظة التي أُعلِن فيها من دبي عن عزم مجموعة «MBC» إطلاق قناتها العراقية، مع أن عدداً غير قليل من الكتاب والفنانين والإعلاميين العراقيين استقبل الإعلان بترحاب شديد. واحد من أسباب الترحاب الأمل بأن يؤثّر هذا المشروع الجديد إيجابياً في وضع الإعلام العراقي المتردّي، فهو يمكن أن يجتذب الإعلام العراقي، خصوصاً إعلام الدولة الممول جيداً، إلى الانخراط في منافسة إيجابية. واحد آخر من الأسباب أن مشروع «MBC العراق» يمكنه أيضاً أن يوفّر فرصاً مهنية للكتاب والفنانين العراقيين عزّت عليهم في بلادهم أمداً طويلاً، لإنتاج أعمال فنية ودرامية عجز عن إنتاجها الإعلام المحلي على مدى خمس عشرة سنة. وثمة سبب ثالث للترحاب بالمشروع السعودي أنه يُعيد ما انقطع من حبال الوصل بين العراق وبعض العرب في العقود الأخيرة.
لم يكن من الصعب، على العراقيين خصوصاً، تبيّن الصلة الإيرانية المباشرة أو غير المباشرة بعملية تنظيم الحملة المناهضة لحفلة العلا ورحلة الطائرة من بغداد إليها، وللمشروع الأم (MBC العراق)، فثمة خشية من أن هذا المشروع يشكّل تهديداً لمشروع الدعاية الإيراني الموجّه إلى العراق، وهو مشروع مُفتقد إلى فعالية التأثير، لأنه مُؤسس على السياسة والمذهبية (نظام ولاية الفقيه ومبادئه وأحكامه)، وتحفل تفاصيله بالبرامج الدينية ذات الطابع الطائفي غير المستساغ في العراق.
على أي حال، الطائرة المنطلقة من بغداد، المزدحمة بالفنانين والكتّاب والإعلاميين، وصلت إلى وجهتها السعودية في الموعد المحدّد، فازدادت وجوه المسافرين بشراً، ونجحت الحفلة التي شاركوا في إحيائها، بل كانوا هم عماد فعالياتها، لينجح بالتالي انطلاق مشروع «MBC العراق». لكن الأهم من كلّ شيء أن المشروع الذي حقّق أكبر مستوى من النجاح هو فشل محاولة أخرى في قطع حبال السرّة بين العراق ومحيطه العربي، والسعي للانتقال به إلى محيط غريب، فحملة التسقيط لم تسجّل أي نجاح يُذكر؛ خصوصاً في الوسط الثقافي والإعلامي المؤثّر الذي قابل الحملة بالرفض والامتعاظ.
هذه رسالة مهمّة جداً للعرب خارج العراق على وجه الخصوص، فثمة بعض منهم ظلّ يظنّ لسنوات أن عراق ما بعد صدام لن يعود واحداً من أقمار المدار العربي. هذا بالطبع وهمٌ أكثر منه ظنّاً، يتعيّن الآن أن يتبدّد ليجري السير بالاتجاه المؤدي إلى الوجهة الصحيحة، وهي وجهة لا تبتعد عن مسار ووجهة طائرة الفنانين والكتاب العراقيين المنطلقة من عاصمة العراق إلى إحدى المدن العربية القديمة في جزيرة العرب.