المسيحية وأوروبا من منظور مولانا محمد علي

بعد أن يعرض مولانا محمد علي وجهاً من وجوه حملات أوروبا على الإسلام وعلى نبيِّه محمد، إبان العهود الاستعمارية، يشمت بما حصل للشعوب الأوروبية من مآسٍ ونكبات وكوارث في أول الحرب العالمية الثانية، ويشمت بالمسيحية ديناً، فيقول: «أصبحت الشعوب الأوروبية التي انعدم الانسجام بينها، يحقد بعضها على بعض، وانقلب هذا الحقد - وكان حتماً أن ينقلب - إلى عداوة وكراهية شديدتين، فحلت الرغبة في قضاء كل منهما على الآخر، محل الرغبة في القضاء على الإسلام، وهكذا عُوقبت المسيحية على خطيئتها، إذ حاولت القضاء على صديقها الحميم، العقابَ الذي تستحقه، ألا وهو تدمير شعوبها الصديقة المتآلفة، ورغبة كل منها في القضاء على الآخر».
الخلاص الديني والروحي الذي يطرحه مولانا محمد علي على المسيحية، بعد أن شمت فيها وفي شعوبها الأوروبية، هو أن «تتأسلم»، وهذا نص ما قاله في هذا المعنى: «إن السلام الحقيقي لن يحل بالمسيحية، إلا بعد أن تقبل النظام الذي أتى به الإسلام».
شاهد مولانا محمد علي أن الغرب المادي لا يؤمن بقوة المسيحية الروحية، ولا يعتقد بالمسيحية أصلاً، هو أن الدين في أوروبا «أصبح من شؤون الإنسان الخاصة، حتى إن الناس هناك يخجلون من التحدث عنه في مجتمعاتهم، ولا يتردد اسم الله إلا على الشفاه فقط».
يستحضر مولانا محمد على أن ثمة اعتراضاً سيقال له رداً على ما قرره فيما سلف، وهو «أن أوروبه ما تفتأ تدعو الناس لاعتناق المسيحية، فهي تبعث البعثات، وتنفق الأموال الطائلة لتنصير أفريقية وبعض جهات العالم الأخرى، أفلا يدل هذا على أن أوروبه ما تزال تعتقد في قوة المسيحية الروحية؟». جوابه على هذا الاعتراض هو: «لا، فلو أن أوروبه تؤمن أقل إيمان بقوة المسيحية الروحية لحاولت على الأقل أولاً إنقاذ روسيا من إلحادها. إن أوروبه لا تؤمن إلا بالقيمة المادية للمسيحية، ولذا نرى أن رسالتها لا تبلغ إلا إلى طبقة العوام الماديين في الشرق وغير المتعلمين في الهند وقبائل السود البرابرة والطبقات المنحطة في الصين، وهكذا فالمادية هي التي تأتي إلى الشرق ولكن في ثوب المسيحية».
يقر مولانا محمد علي «أن أوروبه تناوئ الشيوعية الروسية، ولكن رعاية لمصالحها المادية ليس غير، لأن الشيوعية تهدد رأسمالية أوروبه، وهي الحجر الأساسي لفكرة الإمبراطورية الأوروبية، فلو أن دعاة البلشفية اكتفوا بالتبشير بالإلحاد وحده دون أن يتعرضوا لرأسمالية أوروبه وفكرة إمبراطورتيها لما حركت أوروبه ضدهم ساكناً».
ليس واضحاً تماماً ماذا يعني مولانا محمد علي بـ«المادية» التي سبَّ أوروبا بها، هل هي حسب استعمالاته «التقدم المادي المطرد» و«الرقي المادي»، اللذان لم يجلبا - حسب زعمه - «غير الشقاء والخراب الشديدين»، وهل هي «التي تؤجج نيران الطمع» ولها «براثن» أو مخالب كما السبع والطير الجارح تفتك بالإنسان، والتي بسبب «ازدهارها ونمائها المطلق أطلق العنان للأنانية والحقد واستغلال النفوذ السياسي والكراهية»، أم هي بألفاظ غير عدائية «ازدهار العلم وشمول الثقافة العلمية جميع مرافق الحياة»، وهي «المال والقوة وحسن الإدارة»؟!
ومما سبّ التقدم والرقي المادي الأوروبي فيه أنه عاد بالإنسان إلى عصور الهمجية الأولى. وقد أكد هذه السبّة مرتين في كتابه. وفي مرة ثالثة أكد «أن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية، إذ القبائل تتحارب وتتناحر، لا قانون ولا نظام، أما النظم التي خلفتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلاً من الاتحاد والانتظام».
أقول ليس واضحاً تماماً ماذا يعني مولانا محمد علي بـ«المادية»، إلا أنه من خلال جملة قالها، وهي أن الدين في معظم الدول الأوروبية أصبح من شؤون الإنسان الخاصة، نستدل أنه يعني بها العلمانية. ويعني بها أيضاً، وإن على نحوٍ أقل، الرأسمالية. وهذا ما نستخلصه من قوله: «انقسمت الإنسانية إلى شعوب وأجناس يكره بعضها بعضاً، ويعمل كل منها للقضاء على الآخر، ووضع العراقيل في طريقه في أثناء تسابقها إلى الرقي، وتنافسها للحصول على المزيد من القوة والرخاء المادي والثراء الدنيوي، شعوب متنافرة لا يجمعها أي رابط أدبي، والمسؤول عن هذه الفوضى التي تضرب أطنابها هي المدينة الغربية، التي جعلت التكالب على الثروة أسمى أغراض الحياة».
إنه ينسب كل الشرور وكل الآثام إلى علمنة الدولة والمجتمع في أوروبا، التي يسميها هو «المادية». وهذا معناه أنه يؤيد خضوع الدولة للدين، أو النظام الثيوقراطي. واللافت أنه مع تأييده لهيمنة الدين على الدولة إلا أنه غالط وقزّم قوة المسيحية الروحية في تاريخ أوروبا إلى بضعة أجيال، مع أن هذه القوة استمرت عصوراً مديدة إبان هيمنة الدين المسيحي على الدولة في تلك القارة، وبقيت لها قوتها الروحية مع نشوء الدولة العلمانية وبعد ترسخها فيها.
الاضطراب والتعارض والتناقض في كلامه، أنه مع هيمنة الدين على الدولة وضد هيمنة الدولة على الدين أو استقلالها عنه، إلا أنه في التجربة الأوروبية كان ضد هيمنة الصيغة الأولى لمسيحية الدين، وهذا ما كشفه حديثه عن الشقاق والصراع بين الدين والعلم في أوروبا. يقول مولانا محمد علي: «فإن أوروبا أيام كانت تخبط في دياجير الجهل، كانت راضية قانعة بقرار الكنيسة المتسلطة عليها (آمن ولا تسأل)، ولكن ما إن ازدهر العلم، وشملت الثقافة العلمية جميع مرافق الحياة، حتى كان ضعف ذلك الدين الذي تتنافى تعاليمه المشوهة مع العقل أمراً بديهياً». وما يفسر لنا هنا أنه تحدث عما يسميه «المادية» في أحد استعمالاته لها بلفظ غير عدائي، أنه كان في مقام يريد فيه أن ينال من المسيحية ويزري بها.
يواصل حديثه عن ذلك الشقاق والصراع فيقول: «ولا مرية في أن أول معركة خاضتها المسيحية، كانت مع العلم الحديث، فلقد اعتبرت الكنيسة كل كشف جديد في الدراسات العلمية مروقاً، لأن سلطتها الروحية كانت تقوى مع الجهل المطبق لا مع العلم والعرفان، ولم تكن المسيحية هي الحافزة إلى هذا التقدم العلمي، ولكن على الرغم منها تقدم العلم، واحتل مكانه في أوروبه، وقد حاولت الكنيسة دائماً أن تخمد كل كشف علمي، بكل ما في وسعها من سلطان، ولكنها كانت تنوء بالخيبة في كل مرة».
ثمة حقيقة تاريخية لا مفر من الاعتراف بها، وهي أن العلاقة بين الدين والعلم، أو الفلسفة حينما كانت أم العلوم، كانت علاقة نزاع وشقاق وصراع، ولم تكن علاقة يسودها الوفاق والتآخي والمؤالفة في المسيحية وفي غير المسيحية. وأن نشأة العلوم وتطورها في الحضارة الإسلامية، لم يكن سببها الكامن وسببها الظاهر الإسلام، فالإسلام له أثره المباشر والواضح في نشأة علوم بعينها، وهي العلوم الدينية. ولو كتب للإسلام أن ينتشر في بعض البلاد الأوروبية في زمن الفتوحات الإسلامية لواجه الامتحان العسير نفسه الذي مرت المسيحية به مع الثورات المتلاحقة والمتداخلة التي شهدتها أوروبا، كالثورة العلمية والثورة السياسية والثورة الثقافية والثورة الصناعية، ولن يجد خياراً أمامه سوى القبول بحاكمية العلمانية وباستقلال المجتمع السياسي عن المجتمع الديني، وبالتالي لا معنى لقوله: إن المسيحية انحرفت أمام قوة المادية المتزايدة إلخ..
لا يجد مولانا محمد علي بأساً في أن يردد بعض ما يقول النقد العالي أو التفسير التاريخي النقدي الذي هو تفسير علماني، عن المسيحية، رغم كراهيته وبغضه وعدائه للعلمانية، فيقول: «ثم جاءت فترة بدأ فيها - خلافاً لكل تعاليم الكنيسة - يضع موضوع البحث والدراسة كل معتقدات الكنيسة، والمعتقدات الزائفة وألوهية عيسى، والاعتراف، والطعام المقدس، فاتضح بعد التمحيص العلمي والدراسة المنطقية، أنها مجموعة أساطير، ممسوخة من أساطير بعض الشعوب الوثنية القديمة».
إنه وهو يردد بعض ما يقوله ذلك التفسير العلماني إزاء المسيحية، يتجاهل أن ذلك التفسير ليس محصوراً نطاق عمله بالديانة المسيحية، بل هو يشمل أدياناً أخرى، ويتجاهل أنه لا يتسق مع نهجه السابح في الروحانيات والغارق في الغيبيات.
ثم يعيّر أوروبا بـ«أن المسيحية هي الدين الوحيد الذي عرفته أوروبه، والمسيح هو الإله الذي عبدته وحده، فإذا كان العقل المتبصر لم يستطع الاقتناع بهما، فبديهي أن يكفر بالإله وبالدين معاً».
تحامل مولانا محمد علي على المسيحية لا يرجع إلى تعصب إسلامي عام، بقدر ما يرجع إلى تعصب «قادياني» خاص ضد المسيحية. فالعداء للمسيحية موضوع محوري في خطاب «القاديانية»، وفي خطاب ابنتها «الأحمدية اللاهورية»، لأسباب كنت قد ذكرتها في مقال سابق. وهذا ما دفعه إلى أن يشتط، فينزع عن المسيحية صفة الدين وهيئته ورسمه، ويجعل من الماركسية خطيئة مسيحية.
وعداؤه للغرب سببه أن الدين الذي تعتنقه الشعوب الأوروبية هو الدين المسيحي، وأنَّ للغرب تاريخاً سياسياً وعسكرياً مسيحياً طويلاً، ولم يكن المسيحيون في هذا التاريخ أقلية لا دولة لهم، وذلك منذ أن أصبحت المسيحية دين الإمبراطورية الرومانية في عهد الإمبراطور قسطنطين، وأن السلطات السياسية في الغرب في العهود الاستعمارية كانت تدعم حركات التبشير بالمسيحية في مستعمراتها وخارج مستعمراتها.
وللحديث بقية.