سام منسى
إعلامي لبناني قدم لعدة سنوات برنامجا حواريا سياسيا في قناة الحرة. المدير العام لإذاعة "صوت لبنان" سابقا والمدير التنفيذي السابق لـ"بيت المستقبل"، وكاتب عمود في "الشرق الأوسط". مهتم بجمع ومعالجة البيانات المتعلقة بشؤون الشرق الأوسط، خصوصاً الجوانب السياسية والاجتماعية للتنمية العربية.
TT

حكومة لبنان بين المظلة الدولية ومظلة المحور

قد يصح قول بعض المراقبين إن تشكيل الحكومة اللبنانية بعد تسعة أشهر ينقل لبنان إلى منطقة أكثر أماناً تحت مظلة دولية وإقليمية جزئية قيد التشكل، أبرز عناوينها سياسة أميركية منكفئة تتميز بالتخبط والغموض تضعنا في حالة تخمين وترقب مستمرة، واندفاع روسي بات معتاداً، وشطارة إيرانية في التوسع، بل التوغل من لبنان إلى سوريا والعراق واليمن، وشبه غياب عربي.
إن الكفاءات العالية والخبرات المشهودة التي يتميز بها بعض أعضاء هذه الحكومة لا تنزع عنها حقيقة أنها حكومة غالب واحد هو «حزب الله» وإيران، برضا روسي وتشجيع أوروبي والتباس أميركي. فالحسابات الإيرانية كانت حاسمة على أكثر من صعيد بدءاً من توقيت إعلان الحكومة وصولاً إلى تشكيلتها التي لن تخيّب أهداف طهران الاستراتيجية في أي استحقاقات مقبلة.
وتجدر الملاحظة هنا أن إعلان الحكومة تزامن مع توافق إيراني أوروبي على آلية للتبادل التجاري للالتفاف على العقوبات الأميركية، كما يبدو أن ثمة برودة بدأت تظهر على صعيد الخطط الأميركية لقيام جبهة عربية في مواجهة إيران وسط تعويل عربي على دور روسي في تحجيم إيران على الرغم من عدم وجود أي مؤشرات جدية أو جديدة تبرره.
ولا يخفى على أحد أن إيران تحصد إيجاباً التباينات في واشنطن بين أجهزة الاستخبارات والبيت الأبيض حول مفاعلاتها النووية وحقيقة صعوباتها الاقتصادية، خصوصاً بعد موقف الرئيس ترمب السلبي من آخر تقييم قدمته هذه الأجهزة لها. يضاف إلى ذلك الارتباك الأميركي بشأن قرار الانسحاب من سوريا وأفغانستان والذي لا يزال يتفاعل، لا سيما بعد تصويت جرى في الكونغرس ضد موقف الرئيس من الانسحاب ودعوة رئيس الغالبية الجمهورية إلى تصويت ثانٍ على رؤية جديدة للشرق الأوسط.
وسط هذا الواقع، يمكن القول إن مثل هكذا حكومة لبنانية تسهّل على روسيا وحلفائها في المنطقة تحقيق المزيد من المكاسب على حساب واشنطن، وتمكّن موسكو من إحكام قبضتها على الوضع السوري، ومحاولة تمددها إلى الساحل اللبناني الشمالي الواعد نفطياً بعد الساحل السوري.
بعض المتفائلين يعتقدون أن نفوذاً روسياً في لبنان قد يسهم في تخفيف التوتر بين إسرائيل وإيران في سوريا كما في جنوب لبنان، ويحفظ نظام بشار الأسد الذي دفعت روسيا وحلفاؤها الكثير لحمايته من السقوط من ذيول حرب إسرائيلية إيرانية فوق سوريا. وفي هذا السياق، تبرز كثافة الزيارات الروسية لإسرائيل التي ستشهد انتخابات عامة يواجه فيها نتنياهو رئيس الأركان السابق في الجيش بيني غانتس، والذي يعتبر نفسه أكثر جدارة على مواجهة إيران في كلٍّ من لبنان وسوريا وغزة.
إن هذا المناخ ليس بعيداً عن تفكير الرئيس سعد الحريري الذي أعلن مؤخراً، وقبل يوم واحد من إعلان الحكومة الجديدة، أن روسيا هي الجهة الجدية الوحيدة التي لديها مشروع لعودة النازحين السوريين في لبنان إلى بلادهم. وينسحب هذا التعويل على الأدوار الروسية إلى وجهات وفاعليات لبنانية سياسية واقتصادية لديها مصلحة مشتركة مع موسكو وترغب في حصة لها في عملية إعمار سوريا إذا ما قُدِّر لها أن تبدأ.
في محصلة نهائية، وُلدت الحكومة اللبنانية العتيدة من رحم مرحلة تشهدها المنطقة سِمتها غلبة إيرانية روسية وتردد أميركي، زُرعت بذوره قبل فترة طويلة من دخول ترمب الساحة السياسية، ومناخ إقليمي يحاول مراراً وتكراراً ولا يزال يأمل أن يسحب سوريا من المظلة الإيرانية. هل يبعث هذا الأمر على التفاؤل؟ وهل صحيح أن المسار الذي أخذته الأمور لصالح الغلبة الإيرانية مفروش بالورد وسهل إلى هذا الحد؟ وهل المظلة التي تشكلت تحتها هذه الحكومة كافية ومستدامة؟
الجواب بالإيجاب مبالَغٌ فيه، إذ ينبغي الانتباه إلى عدد من العوامل المؤثرة أبرزها أنه على الرغم من ضبابية المواقف الأميركية وارتباكها، فهي قد تحمل في طياتها جوانب لا تخدم المحور الروسي والإيراني. صحيح أن واشنطن منسحبة، وأنها فوّضت موسكو بعض الملفات التي تتجنبها مثل الوضع في إدلب، إنما أيضاً الرضا الإسرائيلي شرط أساس لا تستطيع تجاهله، وتل أبيب تدرك خطورة الوجود الإيراني في المنطقة عليها ولن تقبل به، اللهمّ إلا إذا كانت الكواليس تخفي مفاوضات بين الدولتين تحدد قواعد اشتباك جديدة تحفظ مصالحهما. كما يصعب التفكير أن واشنطن ستفرّط في مصالحها ومصالح حلفائها في المناطق الكردية لصالح تركيا أو في ملف آخر بعيد هو نظام الحكم في فنزويلا، حيث لإيران و«حزب الله» مصالح كثيرة. ما قد يدخلنا في مناخ عودة الحرب الباردة، ولعل أبرز دلالاته تجميد أميركا العمل بمعاهدة الصواريخ النووية المتوسطة.
صحيح أن الاستقرار في لبنان مطلب عربي وأوروبي وأميركي وروسي وإيراني، كل منهم لأسبابه الخاصة، إنما وسط هذا التجاذب الشديد في الإقليم وتضارب المصالح والأهداف بين واشنطن وموسكو على أكثر من قضية ونزاع، يبقى السؤال حول ما إذا كانت المظلة التي تتفيأها هذه الحكومة كافية لاستقرار لبنان وحمايته. وبصورة أوضح هذه المظلة هي أقرب إلى محور منه إلى مظلة دولية وهي وليدة توافُق غابت عنه الولايات المتحدة إرادياً أو قسراً وقد ترفضه أو تعرقله، فهل هكذا مظلة تلبي المطلوب منها؟ هل هذه الحكومة جاذبة للحماية الدولية الحقيقية أم طاردة لها؟ هل هذا المسلك هو المسار الذي ينبغي على بلد مثل لبنان سلوكه؟
الإجابة المرجحة هي كلا، إذ كيف لدولة أن تحقق ما يمكن اعتباره أن استمراريتها مرهونة على تنفيذه، أي محاربة الإرهاب وتجفيف تمويله، وحماية نظامها المصرفي، والإفادة من الاستثمارات الموعودة في مؤتمر «سادر» كما في قطاع النفط، بينما «حزب الله» يمسك بقرارها؟!
إنما، قد تتحول الإجابة من كلا إلى نعم إذا صح الانطباع أن واشنطن بخاصة، والغرب بعامة، سلّموا بالأمر الواقع ورضوا التعامل والتعايش مع لبنان قابعاً في حضن إيران وحلفائها. ويحضرنا هنا بيان نائب الناطق في وزارة الخارجية الأميركية روبرت بلادينو، الذي أدلى به عقب ولادة الحكومة، معتبراً هذه المناسبة «تاريخية»، معبراً عن «قلق» الولايات المتحدة من تولي حزب الله «مناصب وزارية» ومن استغلاله موارد هذه الوزارات، متناسياً ومتجاهلاً أن «حزب الله» خطف الدولة اللبنانية برمتها!