لم تفلح محاولات الشاب الجامعي ناصر عبد الله في حث ركاب حافلة النقل العام (الميكروباص) المتجهة من حي إمبابة إلى حي فيصل بمحافظة الجيزة، على التمرد لرفض الزيادة التي قررها السائق على الأجرة المحددة، حيث رفعها من (150 قرشا إلى 200 قرش) بنسبة تتجاوز الـ30 في المائة المقررة رسميا، معللا ذلك بزيادة أسعار الوقود في مصر. فرغم الغضب المبرر عند معظم الركاب وضيق أحوالهم المعيشية، فإنهم رفضوا أن يحذوا حذوه، متجاهلين ثورة غضبه ودفعوا الأجرة صاغرين.
انخفاض حدة الاحتجاجات وهدوء ثورة الغضب لدى غالبية المواطنين في دولة شهدت ثورتين على مدار ثلاث سنوات، تخللهما مظاهرات شبه يومية، رصدته عدة تقارير رسمية وحقوقية صدرت أخيرا في مصر، أشارت فيها إلى تراجع كبير في معدلات التظاهر والاحتجاجات، رغم القرارات الحكومية الأخيرة برفع الدعم جزئيا عن بعض السلع والخدمات كالوقود والكهرباء وما ترتب عليه من زيادات في الأسعار.
يقول مسؤول حكومي بـ«مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار»، التابع لمجلس الوزراء المصري، لـ«الشرق الأوسط»، إن «المواطنين في الفترة الحالية وبعد إجراء الانتخابات الرئاسية وفوز الرئيس عبد الفتاح السيسي، أصبح لديهم أمل كبير في المستقبل، ووعي بخطورة استمرار حالة المظاهرات وما سببته من فوضى أمنية وتراجعا اقتصاديا، إضافة إلى ثقتهم في القيادة الحالية للبلاد، وأنها تعمل وتتجه إلى الطريق الصحيح في إعادة الاستقرار والأمن للبلاد، وبات الكل يدرك أن الوضع صعب ويتطلب صبرا».
يضيف المسؤول، الذي رفض ذكر اسمه، إن «عددا من تقارير المتابعة الدورية أشارت إلى احتقان وملل شديدين للمواطنين من التظاهر بشكل عام، ومن مظاهرات جماعة الإخوان المسلمين وأنصار الرئيس المعزول محمد مرسي بشكل خاص»، مشيرا إلى أنه «حتى مظاهرات الإخوان شهدت تراجعا أيضا، سواء على مستوى حجم المشاركة، أو على مستوى الدعوات، بل إن هناك تيارا كبيرا داخل الجماعة بات يشكك في جدوى التظاهر».
ويعيش ملايين المصريين تحت خط الفقر، وتعاني الدولة من تزايد حجم الدين المحلي والدولي، ونقص في السلع التموينية، إضافة لانقطاع متواصل للكهرباء لساعات طويلة يوميا بسبب نقص الوقود. لكن كل هذه الأزمات التي أطاحت بالرئيسين السابقين حسني مبارك ومحمد مرسي لم تؤجج غضب المصريين حتى الآن. وقبل انتخابه رئيسا للبلاد قال السيسي «إنه لن يقبل بالمظاهرات في عهده».
ووفقا لتقرير أصدرته الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، فقد نظمت القوى السياسية المختلفة في مصر، بعيدا عن جماعة الإخوان المسلمين وأنصار محمد مرسي، 52 فعالية احتجاجية فقط خلال شهر يونيو (حزيران) الماضي، 20 منها للقوى الثورية والمدنية، و14 فاعلية طلابية، بينما شهد الشهر 18 احتجاجا واعتصاما وإضرابا عماليا واجتماعيا، تنوعت بين مظاهرات وسلاسل بشرية ومؤتمرات ومعارض تضامنية، بهدف رفض قانون التظاهر، والتضامن مع المسجونين بموجبه، أو للاعتراض على حالات تحرش جنسي لا يزال صداها يؤرق الشارع المصري.
ووفقا للتقرير ذاته، الذي يصدر بشكل شهري، فقد انخفضت هذه الأرقام في الشهر التالي مباشرة، حيث نظمت القوى السياسية المختلفة في مصر، دون «الإخوان»، 26 فعالية احتجاجية فقط خلال يوليو (تموز) الماضي، من بينها عشرة احتجاجات عمالية واجتماعية وسبعة احتجاجات طلابية وتسعة احتجاجات نظمتها القوى المدينة والثورية.
وأرجع حقوقيون انخفاض معدلات التظاهر في مصر، نظرا للقبضة الأمنية الشديدة التي تحكم بها السلطة الحالية للبلاد، وما تشمله من حالات قمع واعتقال للمتظاهرين، أدت إلى حالة من الخوف لدى غالبية الشعب، إضافة إلى قانون تنظيم التظاهر الذي صدر قبل تسعة أشهر، ووضع قيودا كبيرة على تنظيم أي مظاهرة.
تقول داليا موسى، مسؤولة التنظيم العمالي في المركز المصري للحقوق الاقتصادية: «قبيل الانتخابات الرئاسية الماضية كانت هناك موجة عالية من الاحتجاجات، حيث شهدت مصر خلال النصف الأول للعام الحالي، منذ يناير (كانون الثاني) حتى يونيو الماضيين، نحو 470 احتجاجا خلال ستة أشهر لأسباب اجتماعية واقتصادية وعمالية فقط، إضافة إلى المظاهرات السياسية شبه اليومية لجماعة الإخوان، لكن الأمر تغير تماما عقب تنصيب السيسي رئيسا».
وتشير موسى في حديثها لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه «عقب الانتخابات الرئاسية تراجعت حدة المظاهرات تماما، في الشهرين الماضيين فأصبح لا توجد حركات ثورية أو حركات عمالية رغم الإجراءات التقشفية الأخيرة وإلغاء الدعم وما ترتب عليه من رفع للأسعار وتراجع الخدمات الأساسية، فلم تتحرك الناس أيضا.. والوضع لا يبشر بأي انتفاضة غضب، وحتى إذا نظمت مظاهرة فالأعداد المشاركة محدودة جدا».
وبررت موسى هذا التراجع بشقين الأول هو «القبضة الأمنية الشديدة للسلطات، إضافة إلى انتظار وأمل الناس تحقيق طفرة وتنمية اقتصادية، فمعظم الناس لديها قناعة أن مطالبهم ستتحقق بعد الانتخابات وستشهد الدولة حالة استقرار، كما أن سبب ما فيه البلد من معاناة حالية هو جماعة الإخوان المسلمين والإرهاب بشكل عام، وبالتالي فإن دعم الدولة في القضاء على الإرهاب متمثلا في هذه الجماعة في الوقت الحالي سيمكنها من تحقيق آمالهم وطموحاتهم».
وكشفت الناشطة في الحقوق العمالية عن «تعرض عدد من العمال في شركات ومصانع للتوقيف والتهديد بالفصل عند محولاتهم التظاهر، وفيهم من حاول إخراج تصريح تظاهر، حتى أدرك الجميع أن الثمن قاس جدا».
وعدت موسى أن لقانون التظاهر الصادر قبل نحو تسعة أشهر دورا في تحجيم ومنع هذه المظاهرات. وكان الرئيس السابق عدلي منصور قد أصدر في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي قانونا لتنظيم حق التظاهر يشترط إخطار وزارة الداخلية بالمظاهرة قبل ثلاثة أيام، كما يعطيها الحق؛ إذا ما توافرت لديها معلومات جدية على وجود ما يهدد الأمن والسلم، في إصدار قرار مسبب بمنع المظاهرة أو إرجائها أو نقلها إلى مكان آخر، على أن يبلغ مقدمو الإخطار بذلك قبل الموعد المحدد، بأربع وعشرين ساعة على الأقل.
ويتضمن الإخطار عدة بيانات منها مكان المظاهرة، موعد بدئها وانتهائها، الغرض منها، المطالب التي يرفعها المشاركون فيها، وبيانا بأسماء الأفراد أو الجهة المنظمة للاجتماع العام، ووسيلة التواصل معهم، كما يحظر القانون على المتظاهرين أن يعتصموا أو يبيتوا في أماكن المظاهرة، أو تجاوز المواعيد المقررة للتظاهر.
ويشمل القانون عقوبة السجن والغرامة من 100 ألف إلى 300 ألف جنيه لكل من عرض أو حصل على مبالغ نقدية، أو أي منفعة لتنظيم المظاهرات، أو الاعتصام دون إخطار أو توسط في ذلك.
ووفقا لذلك القانون فقد سجن عدد من النشطاء البارزين ممن شاركوا في ثورة 25 يناير 2011، بتهم خرق قانون التظاهر وعدم الحصول على تصريح من الشرطة للاحتجاج، من بينهم أحمد ماهر مؤسس حركة 6 أبريل (نيسان) وأحمد دومة وماهينور المصري وعلاء عبد الفتاح.
وتقاوم أحزاب مدنية ومنظمات حقوقية مصرية حاليا لإلغاء أو على الأقل تعديل هذا القانون، الذي عدته مهددا للحريات والديمقراطية في مصر. وأقام المحاميان طارق العوضي وخالد علي والمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ومركز دعم دولة القانون دعوى قضائية بشأن عدم دستورية المادتين 8 و10 من القانون، وضرورة تأكيد الحق في التعبير عن الرأي كأحد ضمانات الحرية التي كفلتها الدساتير المصرية المتعاقبة.
وفي 17 يونيو الماضي، قضت محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة بإحالة هذه الدعوى القضائية للمحكمة الدستورية العليا للنظر في مدى دستورية هذا القانون، وأرجأت نظر الدعوى لجلسة 21 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل لحين رد المحكمة.
واستحدث قانون التظاهر نظاما جديدا يلزم المحافظين بتخصيص منطقة كافية داخل حدود المحافظة يسمح فيها للاجتماعات العامة والمواكب والمظاهرات السلمية للتعبير السلمي فيها عن الرأي دون التقيد بالإخطار، على أن يتضمن قرار تحديد هذه المنطقة إشارة للحدود القصوى لأعداد المجتمعين فيها. لكن المفارقة أن أي من هذه المناطق، التي حددتها كل محافظات مصر عقب إقرار القانون، لم تشهد مظاهرة واحدة حتى الآن، رغم مرور تسعة أشهر على تخصيصها.
يقول الناشط الحقوقي، جمال عيد، مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان لـ«الشرق الأوسط»: «بالفعل تقلصت المظاهرات إلى حد كبير بسب القمع الممارس من قبل أجهزة الدولة بموجب قانون تنظيم التظاهر، لكن هذا القانون آجلا أم عاجلا مصيره الزوال، ولن يعترف به أحد إلا الدولة». وأوضح عيد أنه «في كل الأحوال ومع مرور الوقت وعدم تحقيق رغبات الناس، سيتجاوز الناس القانون، أو سيعدله البرلمان المقبل». وحول المناطق المخصصة للتظاهر، أشار عيد إلى أن هذه المناطق لم تستخدم أي منها حتى الآن ولم يعترف بها أحد.
«الشرق الأوسط» زارت المنطقة التي خصصتها محافظة القاهرة للمظاهرة، والتي تقع في حي مصر القديمة جنوب حديقة الفسطاط. يقول عم «محمد» حارس المنطقة، إنه منذ الإعلان عنها لم يأت أحد إلى هذا المكان إطلاقا. ويضيف: «كيف يأتي أحد في موقع خرب ويترك العمار داخل المدينة، الناس لا يتظاهرون في منطقة لا يسمعهم فيها أحد».
ولا يتوافر في المنطقة المشار إليها، والتي تعد ساحة كبيرة خالية وتقدر ببعض الأفدنة، أي نوع من الخدمات الأساسية وأهمها مياه الشرب أو «دورات المياه»، كما أنها أشبه بمنطقة صحراوية يعاني الموجود فيها من حرارة الشمس.
ويعد الوصول إلى هذه المنطقة أمرا شاقا جدا ومجهدا، حيث يستغرق الطريق نحو ساعة أو أكثر من منطقة وسط القاهرة. ويشير عم «محمد» إلى أن أي «شخص يعتزم التظاهر في هذا الموقع لن يراه أحد، فليس هنا أي تجمع سكاني كبير أو ما شابه».
وترى الحقوقية داليا موسى، أن «ساحات التظاهر هذه أمر غير منطقي وغير معمول به، فمن المفترض ألا يوجد مثل ذلك، فالناس تقوم بالاحتجاج عند موقع الجهة المنوط بها حل الموضوع، وليس في الصحراء».
رسم بياني يوضح الاحتجاجات خلال شهر يوليو الماضي (الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان)
مصر: المظاهرات في تراجع.. والساحات المخصصة لها خارج الخدمة
بعد تسعة أشهر من إصدار قانون «مطعون عليه» دستوريا
مصر: المظاهرات في تراجع.. والساحات المخصصة لها خارج الخدمة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة