«داعش» يتمدد في جنوب ليبيا

تربة صالحة لاستقطاب المتطرفين من جماعات الإرهاب المختلفة

أعلن {داعش} الإرهابي مسؤوليته عن الهجوم الانتحاري الذي استهدف مبنى وزارة الخارجية الليبية بطرابلس الأسبوع الماضي وأسفر عن مقتل 4 أشخاص على الأقل وإصابة 5 آخرين (أ.ب)
أعلن {داعش} الإرهابي مسؤوليته عن الهجوم الانتحاري الذي استهدف مبنى وزارة الخارجية الليبية بطرابلس الأسبوع الماضي وأسفر عن مقتل 4 أشخاص على الأقل وإصابة 5 آخرين (أ.ب)
TT

«داعش» يتمدد في جنوب ليبيا

أعلن {داعش} الإرهابي مسؤوليته عن الهجوم الانتحاري الذي استهدف مبنى وزارة الخارجية الليبية بطرابلس الأسبوع الماضي وأسفر عن مقتل 4 أشخاص على الأقل وإصابة 5 آخرين (أ.ب)
أعلن {داعش} الإرهابي مسؤوليته عن الهجوم الانتحاري الذي استهدف مبنى وزارة الخارجية الليبية بطرابلس الأسبوع الماضي وأسفر عن مقتل 4 أشخاص على الأقل وإصابة 5 آخرين (أ.ب)

هل أضحى جنوب ليبيا مرتعاً جديداً لتنظيم «داعش» ومنه ينطلق إلى قلب القارة الأفريقية؟ تساؤل ارتفع في الأفق في الأشهر الأخيرة لا سيما في ظل الضربات الإرهابية التي وجهها التنظيم إلى عدد من المدن والقرى في الجنوب الغني بالثورات والفقير بالخطط اللازمة لإدارته، ما يجعل منه حاضنة متميزة للغاية لمثل تلك الجماعات الظلامية.
في أواخر شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي كثف التنظيم الإرهابي من هجماته على جنوب ليبيا، ذاك الذي يعاني من حالة انفلات أمني غير مسبوق، عطفاً على التهميش السياسي والصراعات القبلية على النفوذ والمصالح، وقد كانت بلدة «تازربو» شمالي الكفرة موضوع الهجوم الأخير الذي أسفر عن قتل وإصابة نحو ثلاثين فرداً، وقد سيطروا على نقطة شرطة البلدة، قبل أن يتمكن السكان من طردهم لاحقاً.
ولعل الهجوم الأخير يطرح عدداً من الأسئلة المهمة عن الجنوب الليبي وما يجري فيه، وهل الأمر مقصور على ليبيا فقط أم أن هناك خططاً إرهابية أوسع وأعمق تتصل باختراق «داعش» للقارة الأفريقية، وبناء هياكل تنظيمية له على الأرض في عدد من الدول المعروفة بضعف بنيتها الأمنية والاجتماعية؟
في بدايات العام الماضي كان الحديث عن انتشار الدواعش في شمال ليبيا، لا سيما في مدينة سرت الليبية، غير أنه مع الانكسار الذي حدث لهم هناك والقضاء على عناصرهم عام 2016 بدا كأن «داعش» يبحث عن أماكن أخرى في ليبيا تتوافر فيها عوامل البقاء، وأهمها أن تكون مناطق ذات كثافة سكانية ضعيفة، وأن تكون طرقها وعرة مما يصعب الوصول إليها، عطفاً على الانفلات الأمني فيها وضعف سيطرة الدولة عليها.
في هذا الإطار يمكن القول إن الجنوب الليبي هو أفضل الأماكن المتاحة للجماعات المتشددة بسبب الوضع الأمني الهش، وقربه من حدود الدول الأخرى، ما يسمح له بالمناورة والتحرك ووصول الإمدادات البرية والتمويل.
يشكل الجنوب الليبي جزءاً أساسياً في مسيرة «الدواعش»، خصوصاً أن تنظيم الدولة الإسلامية أعلن عن تأسيس «ولاية فزان»، وإن كان لم يتمكن من التوطين وحيازة نطاق جغرافي بعينه كما حدث في سرت، وهو ما يُرجعه البعض إلى صعوبة تقبل العامل القبلي للتوطين جغرافياً، وإن سمح له باختبار عناصره.
المؤكد أنه ليس «داعش» فقط الذي بدأ يحط رحاله في الجنوب الليبي، فهناك عصابات أجنبية عديدة تقوم بعمليات الخطف والتهريب والحرابة والسطو والتعدي على الممتلكات الخاصة في هذه المنطقة، التي تعرف عدم استقرار أمني وانتشار الفوضى فيها.
يستفيد «الدواعش» من حالة الانقسام السياسي القائمة في الداخل الليبي، وبالتبعية اختلال الأوضاع الأمنية، ولهذا يقيمون معسكرات لتدريب مقاتليهم في جبال «الهروج» البعيدة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن رقعة الجنوب واسعة والاختلافات فيه متكاثرة، لذا فإن حجم التحديات أكبر من قدرة الجيش الذي يعاني من النقص في الإمكانيات والتسليح. في هذا السياق يمكننا أن نشير إلى ما صرح به المهدي بركة الضابط بقوات الجيش ضمن كتيبة «خالد بن الوليد»، من أن حكومة الوفاق قد «تخلت عن الجنوب، ولا تزال تراوغ في دعم الجيش بسبب خلافات سياسية، بينما يعاني الجنوب الإهمال الكامل».
كيف يعمل «داعش» في جنوب ليبيا؟ بلا شك يعتمد مقاتلو التنظيم على استراتيجيات جديدة أبرزها التخفي والسرية، وتنفيذ عمليات مفاجئة، الأمر الذي يعتبره البعض دليلاً على ضعفه، غير أن السؤال المستقبلي المثير: ماذا عن جنوب ليبيا وبقية العمق الأفريقي، ودول الجوار التي يُرشَّح مدها بإرهابيين يدعمون خطط الدواعش لا سيما من ناحيتي تشاد والسودان؟

جنوب ليبيا مناخ جاذب
لا يمكن تقديم جواب عن السؤال المتقدم من دون التطلع إلى الأسباب الحقيقية التي جعلت من جنوب ليبيا تربة صالحة لاستقطاب الإرهابيين، دواعش كانوا أو غيرهم من جماعات الإرهاب المنتشرة هناك.
لم ينل الجنوب الليبي أهمية كافية من قبل، حتى في أيام القذافي، ومع الأخذ في الاعتبار أن إقليم فزان في الجنوب، وهو أحد الأقاليم الثلاثة الليبية الكبرى، والذي تبلغ مساحته نحو 550 ألف كم مربع، لا يقطنه سوى أقل من نصف مليون نسمة، على الرغم من أنه يضم معظم حقول النفط في ليبيا، وتنتج فزان قرابة نصف مليون برميل يومياً، كما يزود النهر الصناعي الذي ينبع من الجنوب الليبي مدن الساحل بقرابة نصف مليون برميل ماء يومياً... فإن التهميش والتجاهل من قبل السلطات الليبية لمطالب أهل الجنوب، سمح للميليشيات بملء الفراغ، وممارسة أنشطة غير شرعية مثل الاتجار بالبشر، وتهريبهم من أقصى الجنوب الليبي إلى سواحل أوروبا، عبر مدن شمالي ليبيا. والثابت أن الإهمال الحكومي الجسيم لجنوب ليبيا لا يتصل فقط بالأوضاع الأمنية، ولكنه ينسحب كذلك على الأوضاع الاقتصادية، وهي بلا شك مدخل جيد للإرهابيين الذين يجدون قنوات تمويل واضحة في الحل والترحال لا سيما من قبل قطر وتركيا بنوع خاص.
وتبدو العلاقة الليبية مع القارة الأفريقية من اتجاهين تستورد منها وتصدر إليها... كيف ذلك؟ قبل فترة نقلت صحيفة «التليغراف» البريطانية عن مصادر استخبارية أن «داعش» يسعى لتأسيس ما يطلق عليه «جيش الفقراء»، ويتكون هذا الجيش بالدرجة الأولى من مقاتلين يتحدرون من دول فقيرة قريبة من ليبيا مثل تشاد ومالي والسودان ونيجيريا، وأنه بحكم وقوع ليبيا على طريق المهاجرين غير الشرعيين الحالمين بـ«الفردوس الأوروبي»، يستغل فرع «داعش» ظروف فقراء قَدِموا إلى هذا البلد لعبور البحر، ويعرض عليهم مئات الدولارات للقتال في صفوفه... هل من إحصائيات رسمية حول الأعداد التي استقطبها الدواعش في جنوب ليبيا؟
ما تقدم هو الاتجاه الأول، أما الثاني فيتمثل في كون جنوب ليبيا هو المعبر الرئيسي إلى العمق الأفريقي، إذ تشير قراءات عديدة قدمتها الاستخبارات الأميركية إلى صناع القرار السياسي، إلى وجود نيات معمقة من قبل القائمين على «داعش» لاكتشاف حواضن بشرية جديدة تفيد على صعيدين، الأول كمورد للعناصر الإنسانية والمقاتلين الجدد، وهناك في عمق أفريقيا عشرات الآلاف الذين يمكن أن يضحوا رافداً خطيراً لـ«داعش»، والصعيد الثاني التمتع بملاجئ آمنة جغرافياً، سيما أن تضاريس العديد من دول أفريقيا الصحراوية تعد البيئة الأكثر ملاءمة لانطلاقة جديدة للدواعش، بعد أن تقطعت بهم السبل في العراق وسوريا، ووجدوا من الدعم الاستخباراتي القطري والتركي بنوع خاص، ما يسّر لهم الانتقال إلى ليبيا ومنها إلى عمق أعماق أفريقيا.
ولعل ما يساعد «الدواعش» وبقية الجماعات المتطرفة في تحقيق أهدافهم هناك.

الطريق إلى صومال جديدة
قبل بضعة أيام تساءل الباحث الإيطالي أرتورو فارفيلي رئيس مركز أفريقيا والشرق الأوسط في المعهد الإيطالي للدراسات الدولية، عن جنوب ليبيا بنوع خاص، وهل هي منطقة في طريقها للتحول إلى صومال ثانية؟
من المعروف للجميع أن الصومال قد عاشت ولا تزال عقوداً طويلة من الانفلات الأمني والسيولة غير المسبوقة، الأمر الذي جعلها مرتعاً جديداً لحركات أصولية من نوعية «حركة الشباب» أو «حزب الشباب»، وهي حركة قتالية تتبع فكرياً تنظيم «القاعدة»، لكنها أيضاً على صلة بدرجة أو بأخرى بـ«داعش»، سيما وأن الانقسامات في تلك الجماعات سهلة الحدوث في أي وقت. يقول فارفيلي إن الدواعش وبعد الغارات الأميركية في 2016 فرّوا إلى الجنوب، وإن «داعش» قد دخل مرحلة جديدة في ليبيا، حيث انتقل من التوسع الميداني إلى حرب العصابات، مشيراً إلى أن تنظيم «داعش» بصدد إعادة تنظيم نفسه، بقدرته على الضرب في أي مكان من البلاد، بما في ذلك العاصمة طرابلس.
ومع الإمكانية الكبرى للتواصل بين المتطرفين في جنوب ليبيا ونظرائهم في الصومال وغيرها من دول أفريقيا المعروفة بوجود جماعات متشددة على أراضيها، فإن ليبيا مهددة بشكل كبير بأن تتحول إلى صومال ثانية، حسب تعبيره. منوهاً إلى أنه من دون تقديم دعم للمجموعات المحلية التي يمكنها فعلياً مواجهة «داعش»، فإنه لن يكون للضربات الموجّهة ضد قيادات التنظيم أي تأثير على المدى البعيد.
وفي كل الأحوال يمكن القطع بأن الجنوب الليبي وفي ظل صراع القوى السياسية الليبية في الشمال، قد بات منطقة توسع طبيعية باتجاه أفريقيا جنوب الصحراء لتنظيم «داعش»، وهو في طريقه إلى تحويله كذلك إلى منطقة انكفاء في حال حصول تدخل دولي مكثف ضد حضوره في الشمال وعلى الساحل، والموقع والموضع يمكّنان تنظيم «داعش» من الاقتراب من شبكات أصولية وإرهابية في السودان، وتشاد، والنيجر، ومصر، بل وإقامة علاقة تنافسية مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، من دون أن نهمل القرب الجغرافي لجنوب ليبيا من منطقة دارفور، التي تمثل برميل البارود، والذي تخلت عنه الأسرة الدولية، ولهذا يبقى من الطبيعي أن تملأه قوى أخرى، حتى وإن كانت إرهابية.
ولم يكن الحديث المتقدم عن «الدواعش» في جنوب ليبيا تنظيراً فكرياً، بل بات حقيقة واقعة أكدها الاعتداء الذي حصل في بلدة «الفقهاء» التابعة لبلدية الجفرة في النصف الأول من شهر ديسمبر (كانون الأول)، حيث أدى إلى مقتل أربعة مدنيين، واختطاف عشرة آخرين من سكان البلدة، بالإضافة إلى شرطيين، ما يعني أن «داعش» قد نجح ولو بشكل جزئي في إعادة ترتيب صفوفه وأوراقه في الجنوب الليبي.
إلى ذلك تؤكد مصادر في الجيش والاستخبارات الليبية أن عناصر «داعش» قد تمكنت من التمركز في مناطق نائية في صحراء البلاد، ما يشير إلى إنهاء الخلافات التي كانت تدب بين قادة التنظيم، وأكدت المصادر عينها أن تمركزات التنظيم بدت أكثر قوة في مناطق محيطة بجبال الهروج والسوداء، جنوب ووسط جنوب البلاد، وهي مناطق محصنة طبيعياً وتتصل بالحدود الجنوبية المفتوحة، بالإضافة إلى ارتباطها بشبكة صحراوية تصل إلى أودية جنوب شرقي بني وليد جنوب شرقي طرابلس.
والتساؤل يفرض نفسه: هل تلعب العناصر المتطرفة في تشاد دوراً بعينه في أزمة جنوب ليبيا؟ يبدو أن ذلك كذلك بالفعل، إذ تتواصل تحركات العناصر الأجنبية في الجنوب الليبي، وعلى رأسها قوات المعارضة التشادية، التي تتخذ من أراضي الجنوب مسرحاً لتنفيذ أنشطتها داخل ليبيا وخارجها، وتتهم ليبيا العناصر التشادية بالمشاركة في عمليات خطف وابتزاز المواطنين والأجانب، وبتهريب الأسلحة إلى العناصر المقاتلة وفي المقدمة منها «داعش» ومقاتلوها، والذين تتعدد أسماء جماعاتهم، وبعضهم لم يكن من الدواعش في الأصل وإن أعلنوا لاحقاً التبعية الآيديولوجية مثل جماعة «مجلس شورى شباب الإسلام» الذي يعد من أبرز التنظيمات التي أعلنت انتماءها لتنظيم «داعش»، عبر إنشاء محكمة إسلامية وشرطة إسلامية، والتي قادت عمليات إعدام وجلد علنية، كما واصلت ارتكاب جرائم قتل جرت غالبيتها في بنغاري ودرنة.
وتبقى الإشارة إلى أن الجنوب الليبي يضحى نقطة ارتكاز مالية لـ«داعش» الذي فقد غالبية مصادره في العراق وسوريا، وذلك من خلال تهريب البشر، عبر الحدود، وكذا تهريب الأسلحة والسلع والبضائع، وأنواع الدخان المختلفة، وحتى المشتقات الطبية والمخدرات، لكي يتمكن من الإنفاق على نشاطه الإرهابي، وقطع الطريق على مناصري «القاعدة» من جهة ثانية.
الطريق إلى المواجهة
ويبقى التساؤل مطروحاً: كيف السبيل إلى مواجهة خلايا «داعش» في جنوب ليبيا، سيما وأن إمكانيات الجيش الليبي ضعيفة، وهناك حصار مضروب عليه من قوى خارجية، تمنعه من استيراد الأسلحة اللازمة، رغم تشدق تلك الأبواق الأممية بحتمية محاربة الإرهاب، في حين يقوم رجالاته بمقاتلة الإرهاب بالنيابة عن دول الجوار والمجتمع الدولي كله، الذي ينظر إليه ولا يدعمه، وتالياً يتهمه بالقصور؟
المؤكد أن الجواب يمضي في اتجاهين متشابكين، فهناك دور واجب على الليبيين أنفسهم في الداخل، وهناك كذلك واجب ملقًى على كاهل المجتمع الدولي انطلاقاً من أن مجابهة الإرهاب ليست شأناً مناطقياً، بل مهمة أممية، وبخاصة أن الجميع بات يكتوي بنيران الإرهاب في قارات الأرض الست.
بالقطع يبقى تردي الأوضاع الأمنية رجع صدى للأوضاع والأحوال المعيشية، ولهذا سيبقى الاستقرار في الجنوب بعيد المنال، في ظل استمرار غياب الأمن، وعدم إعادة الاعتبار للجنوب، الذي لم يشهد اهتماماً أو نهضة عمرانية تنموية ملموسة مستمرة عبر حقب متلاحقة.
هذا من جانب، أما الجانب الآخر داخلياً فهو توحيد الجهود الأمنية من خلال مؤسسة عسكرية واحدة، وخطط مواجهة موحدة، تمكِّنها من القضاء على الحضور الإرهابي على الأراضي الليبية. لكن يبقى هناك دور دولي خارجي لا بد منه، القسم الأول منه يتصل بدول الجوار الكبرى لا سيما مصر والجزائر، وكلتاهما قد عانت من نيران الإرهاب المدمر ولا تزال، ومعروف أنهما تبذلان جهوداً كبيرة معلنة وخفية في مساعدة ليبيا من أجل مواجهة جميع التيارات الأصولية على أراضيها. أما القسم الثاني فيثير كثيراً من التساؤلات وهو المتصل بأوروبا وبالولايات المتحدة الأميركية، اللتين تمنعان وصول الأسلحة المطلوبة للجيش الليبي لمطاردة فلول «داعش»، وهناك كثير جداً من علامات الاستفهام على قيادة «أفريكوم» في مناطق قريبة من ليبيا، ما يطرح تساؤلات عن جدية مطاردة الأميركيين تحديداً للإرهاب في أفريقيا عموماً. وفي كل الأحوال يبقى الرهان على الداخل الليبي، وعلى أن وحدة كلمة الليبيين هي الحل الأفضل، فلا أفضل من ظفرك لحك جلدك.



«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».