هل يتحمل العالم الأزمة الاقتصادية المقبلة؟

أعلن الاقتصادي الأميركي الشهير نورييل روبيني في سبتمبر (أيلول) الماضي، أنه يتوقع دخول العالم ركوداً شديداً عام 2020. كثير من المحللين والاقتصاديين يخرجون بتكهنات وينشرون التحاليل، ولكن عندما يتحدث روبيني، المهتمون بعالم المال والأعمال يصغون، إذ روبيني هو الاقتصادي الأبرز الذي توقع الأزمة الاقتصادية العالمية التي وقعت عام 2008، وحذر قبلها من فقاعة سوق العقارات التي أدت إلى تلك الأزمة. وتحذير روبيني الجديد من الأزمة الاقتصادية المقبلة جاء مع تحذيره من تداعيات الانقسامات السياسية التي يشهدها العالم، ما يعوق سبل العمل الجماعي لحماية الاقتصاد العالمي، بالإضافة إلى النسب العالية من الدين العام الذي تعاني منه دول مثل الولايات المتحدة.
وبحسب مؤسسة «جي بي مورغن» المصرفية، من المتوقع أن يتجه العالم نحو أزمة اقتصادية بحلول عام 2020. وقد بدأت أسواق أساسية مثل سوق الصين تتباطأ، بينما يتوخى المستثمرون الحذر من الإنفاق والاستثمار الجريء خلال المرحلة الحالية. كما حذر صندوق النقد الدولي الأسبوع الماضي، من مؤشرات تدل على قدوم أزمة مالية قريباً. وقد صرح ديفيد ليبتون، النائب الأول للمدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي بأن «نظام منع الأزمات غير مكتمل»، على الرغم من الوعود التي قطعها قادة العالم بتحسين آليات التنسيق بعد الأزمة الاقتصادية العالمية السابقة.
وعلى الرغم من وجود مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومجموعة العشرين للاقتصادات الكبرى، لم يتوصل العالم إلى صيغة متكاملة لمنع أزمات اقتصادية مثل التي شهدناها قبل عقد من الزمن. إضافة إلى ذلك، تراجع العلاقات الدولية خلال العامين الماضيين، والسياسات التي اتبعتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في هذا الخصوص، يعني أن أي تقدم تم إحرازه قد خسرناه. الفرق بين عالمنا اليوم ووضع العالم عام 2009 - 2010 أن العلاقات بين الدول الكبرى أكثر توتراً وأشد تعقيداً. ولم تعد الدول تؤمن بأن العمل الجماعي هو الأفضل للجميع.
رفع الرئيس الأميركي ترمب لشعار «أميركا أولاً» أدى إلى تنامي السياسات الحمائية دولياً، بينما فرض عقوبات أوروبية وأميركية على روسيا أدى إلى مزيد من التمزق في آلية التنسيق الاقتصادي. كما أن دول أوروبا الكبرى التي قامت تقليدياً بدور أساسي في إدارة الاقتصاد العالمي مكبلة الأيدي حالياً. فالمملكة المتحدة غارقة بأزمة الخروج من الاتحاد الأوروبي «بريكست»، وستبقى منشغلة بها خلال العام المقبل على أقل تقدير. أما ألمانيا وفرنسا فلديهما أزمات سياسية مختلفة تشغلهم داخلياً من دون إعطاء فرصة لبناء تحالفات دولية تحمي القارة الأوروبية من الاضطرابات السياسية المتوقعة.
المشهد يثير القلق؛ ليس فقط من الناحية الاقتصادية، بل من الجانبين السياسي والاجتماعي. هناك دلائل تاريخية على دور الأزمة الاقتصادية التي تلت الحرب العالمية الأولى في صعود الفاشية واندلاع الحرب العالمية الثانية. وهناك حركات يمينية متطرفة حالياً تنشط من البرازيل إلى النمسا تستغل المخاوف الاقتصادية بين الشعوب.
وفي المنتدى الاستراتيجي العربي الأسبوع الماضي، تساءل وزير الخزانة الأميركي السابق جاك ليو: «إذا كانت هناك أزمة اقتصادية عالمية، علينا السؤال إذا كان بإمكان وزراء المالية ومديري المصارف المركزية والقادة السياسيين أن يجتمعوا ويتخذوا القرارات التي قمنا فيها أعوام 2008 و2009 و2010، أم لا؟». إذا كانت القمم والمؤتمرات الدولية التي شهدها العالم خلال العام الماضي تدل على شيء، فهي تدل على عدم إمكانية المسؤولين من الدول الكبرى على التوصل إلى حلول جماعية ترضي جميع الأطراف. وهذه الأزمة تنطبق على ملفات في غاية الأهمية، على سبيل المثال فيما يخص التعاون الدولي لمكافحة التغيير المناخي وللتوصل إلى إجراءات جماعية فيما يخص الهجرة. فقرار الولايات المتحدة الانسحاب من اتفاق باريس المناخي وعدم المشاركة في قمة مراكش للمصادقة على اتفاقية الهجرة الدولية شكل ضربة لجهود التنسيق الدولي الفعال. وصعود الصين السياسي لا يعني ملء الفراغ السياسي الحالي، إذ ما زالت بكين متمسكة بسياسات عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى ولا تريد التدخل في شؤونها الاقتصادية وغير الاقتصادية.
وهناك من يعتبر أن الشلل السياسي الحالي الذي لا بد أن يؤثر في الاقتصاد العالمي هو نتيجة فشل سياسات العولمة في تحسين حياة فئات كاملة من المجتمع، خصوصاً اليد العاملة. وعلى هذا الأساس، ينظر اقتصاديون ومحللون إلى كيفية تعديل السياسات الخاصة بالعولمة، مثل التجارة الحرة، لتحمي فئات مختلفة من المجتمع. وقد بدأ منتدى الاقتصاد العالمي بالحديث عن «العولمة 4.0»؛ أي النسخة الجديدة للعولمة المرتبطة بالثورة الصناعية الرابعة الخاصة بالتكنولوجية وجعلها جزءاً لا يتجزأ من المجتمع والاقتصاد والعلاقات بين الدول والبشر. فتنامي دور التكنولوجيا، وتأثيرها في سوق العمل، بالإضافة إلى تفاقم سرعة التواصل بين الدول من خلال الاتصالات والسفر وشبكات المعرفة، يعني أن العولمة تدخل مرحلة جديدة. هذه المرحلة قد تؤدي إلى خيارين؛ تعديل مسار الاقتصاد العالمي ليكون أكثر شمولية وعدلاً، أو تسريع وقوع أزمة جديدة مع تفاقم الفجوة الاقتصادية. على القادة السياسيين والاقتصاديين اتخاذ الإجراءات المطلوبة ليكون الخيار الأول هو الذي يتحقق.
بالطبع، لا يمكن الجزم بأن أزمة مالية مقبلة لا محالة خلال 2020. فهناك مؤشرات تفيد بأن الاقتصاد في أستراليا يتجه لفائض في ميزانيتها لأول مرة منذ 2010، بينما الصين تصف تباطؤ نمو اقتصادها بالتحول من «النمو عالي السرعة» إلى «النمو عالي الجودة». وبينما تتسارع مستويات النمو في الدول الأفريقية الكبرى وتتحول اقتصادات الدول المنتجة للنفط إلى اقتصادات أكثر تنوعاً وحيوية، هناك فرص اقتصادية إيجابية. ولكن لا يمكن تجاهل المؤشرات الواقعية والتوقعات الاقتصادية فيما يخص أزمة محتملة. فعلى الساسة الفاعليين أن يبنوا الجسور الممكنة لضمان العبور السليم خلال الأزمة المقبلة، عندما تقع - وهذه يجب أن تكون من أولوياتهم ونحن على أبواب عام 2019.