ثقافة تبحث عن الثورة بعيدا عن عالم الضجر والفساد والشعارات

2013 مصريا.. اعتصام تاريخي للمثقفين وحرب بيانات معارضة ورحيل أحمد فؤاد نجم

أحمد فؤاد نجم  -  غلاف «نادي السيارات» - طارق إمام
أحمد فؤاد نجم - غلاف «نادي السيارات» - طارق إمام
TT

ثقافة تبحث عن الثورة بعيدا عن عالم الضجر والفساد والشعارات

أحمد فؤاد نجم  -  غلاف «نادي السيارات» - طارق إمام
أحمد فؤاد نجم - غلاف «نادي السيارات» - طارق إمام

كان مشهد اعتصام المثقفين والكتاب والفنانين والشعراء في مكتب وزير الثقافة، واستيلائهم على مبنى الوزارة، هو الحدث الأبرز خلال عام 2013 والاستثنائي على مدار تاريخ الثقافة في مصر. فلأول مرة ينجح المثقفون في فرض كلمتهم، وتصعيد غضبهم، ووقف مخطط «أخونة» الثقافة وتجريفها من قوتها الناعمة وتشتيت كوادرها، لمصلحة آيديولوجية جماعة الإخوان المسلمين الحاكمة التي كانت تسعى لتفكيك مفاصل الدولة، والعبث بهويتها وتاريخها وتراثها.
أمام هذا الغضب، لم يستطع وزير الثقافة الإخواني، علاء عبد العزيز، بعد أيام من تعيينه، دخول مكتبه، وفشل «الإخوان» وأنصارهم في فض الاعتصام بالقوة. واستطاع المثقفون والشعراء والفنانون المعتصمون على مدى الشهر ونصف الشهر، أن يلفتوا الأنظار إليهم بقوة، وأن يحولوا محيط الوزارة في حي الزمالك الراقي، إلى كرنفال فني متنوع، شهدت منصته الخشبية البسيطة، أمسيات شعرية وأغنيات ثورية، وعروضا أدبية ومسرحية. كما شهد في سابقة هي الأولى من نوعها، عرضا لباليه «زوربا»، قدمته مجموعة من شباب فرقة باليه الأوبرا المصرية وسط الشارع وبمشاركة الجمهور، وذلك ردا على تعسف إسلاميين متشددين في مجلس الشورى، وعدهم هذا الفن حراما.
تواصل اعتصام المثقفين مع مظاهرات الغضب الشعبية الجارفة التي انفجرت في 30 يونيو (حزيران) الماضي، وأطاحت بحكم «الإخوان». لكن هؤلاء المثقفين، فشلوا مع أول تشكيل حكومي جديد، في تسمية وزير للثقافة من بينهم، مما أعاد الثقافة إلى مربع صفر. وقد جرى استنساخ الدكتور صابر عرب وزيرا للثقافة، ليتولى حقيبة الوزارة للمرة الثالثة في غضون عامين. وهو الوزير نفسه الذي انتقده مثقفون كثيرون، وصفوه بـ«الوزير الدوبلير» الذي يستعين به كل رئيس حكومة، ولا يملك أي تصور لمستقبل الثقافة، فهو صاحب فضيحة الاستقالة من أجل الجائزة.
وكان عرب استقال من منصبه في حكومة الدكتور الجنزوري، مؤقتا، ليحصل على جائزة الدولة التقديرية، حيث عاد بعدها إلى الوزارة. لكن عرب الذي أدمن المناورة بالاستقالة، استطاع أن يجمل صورته لدى الكثير من المثقفين، خاصة أنه لا ينتمي إلى تيار سياسي معين. ومع اشتداد ثورة الغضب الشعبي ضد «الإخوان»، قدم عرب استقالته من الحكومة الإخوانية، وانضم إلى صفوف المثقفين، ليعود للوزارة مرة أخرى من الباب الخلفي للثورة، كوجه هادئ ومريح للسلطة، خاصة بعد أن فشل المثقفون في الدفع بوزير آخر من بينهم يضخ دماء جديدة في شرايين الثقافة، تمنحها قدرا أوسع وأعمق من الحيوية والفعالية.
إنه مشهد ثقافي ثقيل أجهد المثقفين المصريين خلال عام 2013، اختلطت فيه الثقافة بالسياسة. فبعد أيام قليلة من تولي الوزير عرب حقيبة الثقافة، ارتفعت البيانات الثقافية المعارضة والرافضة لما يسمونه «فساد المؤسسة الثقافية الرسمية» التي تمثلها وزارة الثقافة بقطاعاتها المتعددة. ويرى الرافضون، أن رياح الثورة المصرية لم تطل هذه المؤسسة حتى الآن، وأن جماعات المصالح والولاء ما تزال تسيطر على مجريات العمل فيها.
المواجهة استدعت النبش والتقليب في الدفاتر القديمة، وإعادة النظر في تركة ثقافية مهلهلة تراكمت عليها الأخطاء والسلبيات على مدار سنوات كثيرة. استدعت كذلك، المطالبة بطروحات جدية، تشدد على إعادة هيكلة المؤسسات والهيئات الثقافية وتنقيتها، والعمل على دفع الفعل الثقافي ليحقق دوره الناصع في النهوض بالمجتمع وبالذوق الفني العام.
ورغم الصدى الإيجابي الذي تحدثه هذه البيانات وواقعية ما تكشفه من سوء، وما تطالب به من تغيير ضروري، فإنها لا تذهب أبعد من فورات الحماس الغاضب، فلا تؤسس، في الغالب الأعم، لثقافة بديلة، لها مقوماتها وخصائصها واستراتيجيتها، على المديين القريب والبعيد. من أبرز هذه البيانات المعارضة وأكثرها حدة، بيان لتيار الثقافة الوطنية، وقع عليه عدد كبير من المثقفين المستقلين وكان بعنوان «وزارة الثقافة.. عاهة الثورة». كشف فيه أصحابه عن وقائع فساد واسعة في وزارة الثقافة على حد ما جاء فيه. وطالبوا بإقالة وزير الثقافة ومحاكمته مع رموز وزارته. وأعلنوا البدء بخطوة تصعيدية أخرى عملية، تتضمن مذكرة تفصيلية، ترفع لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء. لكن شيئا من هذا لم يحدث. وظلت أحلام المثقفين في التغيير والإطاحة بثقافة عرجاء تعيد إنتاج الماضي، تراوح في مكانها، لتتسع كل يوم دائرة التناقض بين المثقفين أنفسهم والمؤسسة الثقافية الرسمية.
وفي بيان آخر، انتقد المثقفون المادة 67 من الدستور الجديد، ورأوا أنها دست السم في العسل، وطالبوا بتغييرها. وهم يرون أنها بينما تقول إن «حرية الإبداع الفني والأدبي مكفولة، لكنها تحت عباءة هذا، تصادر الإبداع نفسه، وتعيد إنتاج قانون الحسبة» الذي يمنح أي شخص، حرية التقدم بدعوى إلى المحكمة مباشرة، ضد أي مصنف أدبي أو فني أو فكري، أو أي فعل يراه الآخرون مخلا، انطلاقا مما يعتقدون من قيم وأفكار. وهو القانون نفسه الذي حوكم به الدكتور نصر حامد أبو زيد وآخرون من الكتاب والشعراء.
انعكست هذه الأمور وغيرها، على سوق الكتاب، حيث شهدت دور النشر انحسارا في إصداراتها. كما أدى الاضطراب الأمني الذي تشهده البلاد، إلى تقليص مصادر التوزيع. وكما تقول الدكتورة فاطمة البودي، صاحبة «دار العين» للنشر في القاهرة: «حتى الآن، لم نصادف أي تغيير في الوضع العام للنشر، علما بأن أكثر من 60% من دور النشر المسجلة تنشر كتبا دينية، ونعد دور النشر التنويرية التقدمية قليلة جدا. كما تتعرض صناعة النشر عربيا، لدخلاء كثيرين لا علاقة لهم بالنشر كرسالة إنسانية سامية، وكل همهم الرئيس هو الربح، لذلك ينشرون كتبا تعد متواضعة، من دون تقيد بالأصول الفنية والمهنية للكتاب، وبهذا يسيئون إلى المهنة شكلا وموضوعا».
وأوضحت البودي أن كل مشكلة الكتاب العرب تكمن في التوزيع، لكن في ظل الظروف القلقة في مصر، يكون الاعتماد الآن على المعارض العربية لتعويض الخسائر.
وفي ذاكرة القراء والمثقفين، تعلق بعض الإنجازات الأدبية المهمة التي صدرت هذا العام، وشكلت استثناء سواء في الذيوع والانتشار أو المتابعة النقدية، منها: الجزء الأول من «موسوعة ثورة يناير»، للباحث هشام عبد العزيز، ومذكرات رئيس الوزراء الأسبق الدكتور كمال الجنزوري، وهي بعنوان «طريقي»، وصدرت عن «دار الشروق»، و«حجر رشيد.. الخروج الآمن لمصر» للدكتور مصطفى حجازي عن «دار نهضة مصر»، و«النخبة والثورة» للدكتور نبيل عبد الفتاح، عن «دار العين». ومن الروايات صدر: «نادي السيارات» لعلاء الأسواني عن «دار الشروق»، و«باب الليل» لوحيد الطويلة، عن «دار الاختلاف»، وقد حظيت بتغطية نقدية موسعة ومتنوعة. وفي الشعر، يبقى من الإصدارات اللافتة، الجزء الأول من الأعمال الكاملة للشاعرين رفعت سلام، وصلاح اللقاني.
ومن أهم الوقائع الثقافية المفرحة التي شهدها هذا العام، فوز الروائي المصري الشاب، طارق إمام، بجائزة «متحف الكلمة» الإسبانية للقصة القصيرة، عن قصته «عين» في دورتها الثالثة التي شارك فيها آلاف الكتاب من 129 دولة، تقدمت بمجموع 22571 قصة، وأشرفت على الاختيار، لجنة تحكيم مكونة من عشرين أستاذا متخصصا في اللغات المختلفة.
ولم يشأ عام 2013 أن ينفض أوراقه من دون دمعة حزن على رحيل كتاب وشعراء وفنانين، أثروا في الحياة الأدبية، في مقدمتهم رحيل شاعر الثورة والغلابة أحمد فؤاد نجم، الذي ودع حياتنا بعد رحلة خصبة من العطاء الشعري، وعمر ناهز 84 سنة. لكن من بين شظايا هذه الدمعة على نجم وآخرين، تظل ثقافة مصر تبحث عن الثورة، بعيدا عن ملكوت الضجر والفساد والشعارات.



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.