أليكسي مابيل لـ«الشرق الأوسط»: الهوت كوتير مثل جراحة تجميلية تحتاج إلى كثير من الثقة والدقة

منذ عشر سنوات، عندما قابلت المصمم الفرنسي أليكسي مابيل أول مرة في باريس، كان شاباً يافعاً، يتميز بأسلوب داندي واضح انعكس على تصاميمه. فالقليل منا فقط لا يتذكرون تشكيلة «هوت كوتير» زيّنها بـ1500 فيونكة وتفاصيل تتحدى ما كان دارجاً حينها من أسلوب يتوخى الهدوء ويبتعد عن «الماكسيماليزم».
بعد عشر سنوات كان اللقاء في لندن، التي جاءها ليضع التفاصيل الأخيرة على ركنه الخاص في محلات «هارودوز»، ويُجري محادثات مع مسؤولي موقع التسوق الإلكتروني «نيت أبورتيه»، حيث ستتوفر تصاميمه أيضاً. استعاض عن الأسلوب الداندي بملابس «سبور» بررها بأنها لدواعي السفر. كان عليه أن يعود إلى باريس في نفس اليوم. ومع ذلك فإن شكله وروحه لم يتغيرا. نفس النظرات الشقية وهو يبوح بأسرار خاصة جداً عن كيفية تعامله مع المحلات الكبيرة والمتاعب التي يعاني منها، كما عن علاقته بهادي سليمان، مصمم دار «سان لوران» السابق و«سيلين» الحالي الذي عمل معه في بداية مشواره. بعد استفاضته في الحكي عنه ورأيه فيه، يُذكرني بأن رأيه هذا شخصي و«سرّ بيننا» أي غير قابل للنشر. تلقائيته وعفويته يجعلانك تشعر كما لو كان صديقاً حميماً من حقه عليك أن تحفظ أسراره. تنسى الحس الصحافي ولا تجد بداً من أن تعده بأن «سرّه في بئر».
أطلق أليكسي مابيل علامته منذ 13 سنة، وقدم أول عرض له في باريس منذ 10 سنوات. عمل قبل ذلك مع كل من جون غاليانو في «ديور» وهادي سليمان في «سان لوران». يتذكر الأول بحب ولا يخفي إعجابه به، لكنه لا يريد أن يتشبه به «يجب أن يكون لكل مصمم شخصيته الخاصة وطريقته في العمل». ويتابع: «مع غاليانو مثلاً كانت التيمة هي الأساس الذي نبني عليه التشكيلة بالكامل، وهو ما لا أعمل به. أفضل في المقابل أن أبدأ من القماش وشكل المرأة وبعد ذلك أنسج القصة أو التيمة لإعطاء التشكيلة تماسكاً لا أكثر».
طريقة قص القطعة والتفاصيل الخفية التي تفاجئ الزبونة من أولوياته، إضافة إلى التوازن بين التطريز والألوان وحركة الأقمشة. «جون غاليانو رائع كإنسان وكمصمم على حد سواء» بالنسبة إليه، وربما أثر عليه مثل ما أثر على زاك بوسن في بداياته وغيرهما كُثر، لكن أليكسي كان مدركاً للأمر ومصراً على ألا يصبح نسخة منه. لهذا عندما غادر «ديور» اكتفى بتصميم القمصان والبنطلونات. استعمل هذه الفترة للنقاهة أو للديتوكس، إن صح القول، حتى يُكوّن صورة واضحة للمستقبل. بعد ذلك توسع إلى قطع أخرى بشكل طبيعي خصوصاً بعد تزايد طلب زبوناته على فساتين وقطع أخرى تكمل خزاناتهن.
بأسلوبه الباريسي الشقي لا يخاطب مابيل الذائقة الفرنسية أو الغربية وحدها، بل يشهد إقبالاً كبيراً من قبل المرأة العربية، التي يقول عنها إنها أهم زبونة لديه وأكثر من آمنت بأسلوبه منذ أول عرض قدمه. لهذا السبب كان مهماً أن يوجد في محلات «هارودوز»، التي حاول دخولها منذ زمن طويل لكن الظروف لم تساعده «لأنه في كل مرة كانت تتقدم فيها مفاوضاتنا، يتغير مسؤول المبيعات لنعود إلى نقطة الصفر. تكرر الأمر مراراً، إلى أن فقدت صبري وخيّرتهم بين أن يفتحوا لي الباب أو يتراجعوا بشكل صريح وإنهاء عملية الشد والجذب المملة. لحسن الحظ أنهم انتبهوا إلى أن وجودي في المحل إضافة لهم ولي على حد سواء، كون شريحة كبيرة من زبوناتي هن من زبونات المحل».
ينفي أن يكون مدللاً أو مثالياً «ربما أكون أنانياً بعض الشيء من ناحية أني أعمل كل ما يُرضيني شخصياً»، لكنه يُؤكد أن هذا لا يمنع من أنه يتمتع بحس تجاري نمّاه بالتجربة. فقد فهم منذ البداية أنه لكي ينجح يجب أن يتتبع أحوال السوق ويتعاون مع المشترين ويقيم علاقة صحية معهم. فالفني والتجاري بالنسبة إليه وجهان لعملة واحدة، لا سيما أن الموضة تغيرت كثيراً عما كانت عليه في الماضي. لم يعد فيها مكان للحنين، والمصمم، مثل غيره، ابن عصره ولزاماً عليه أن يواكب التغيرات.
والنتيجة أن أليكسي مابيل، على عكس بعض المصممين الذين يشتكون من إيقاع الموضة المتسارع بشكل يقطع حبل أفكارهم، لم يتأثر حماسه أبداً، لكنه في الوقت ذاته يرفض أن يقع ضحية لإملاءات المحلات الكبيرة ومتطلباتها الكثيرة. يشرح: «أي تصميم أرسمه يكون تصوري الخاص. فقط عندما أنتهي منه، أجري عليه بعض التغييرات تماشياً مع متطلبات السوق وما يقترحه علي مسؤولو أقسام الشراء في المحلات بما يتماشى مع رؤيتي. كنت في البداية أستمع لكل نصيحة أو طلب من مسؤولي محلات كبيرة مثل نيمان ماركوس وساكس أفينوي وغيرهما، لكننا ارتكبنا عدة أخطاء، ربما، لأنهم كانوا يتوقعون أشياء لم نكن قادرين على توفيرها أو لم يقرأوا أحوال السوق جيداً. في الأخير قررت ألا أسمع لهم وأن أنفّذ ما أؤمن به، إن لم يعجبهم فهذا أمر يخصهم».
عندما أشير إليه أن هذا ترف لا يتوفر لكل المصممين الشباب، يردّ بأنه يُدرك أن عليه أن يبيع. كل ما في الأمر أنه ليس مضطراً إلى الانصياع لإملاءات السوق بشكل لا يخدمه. فاستقلاليته مثلاً تمنحه الحرية لطرح تصوره المختلف عن بعض المصممين المطالبين بطرح أشكال فنية وسريالية إلى حد الغرابة. قد يكون هذا جيداً لخلق صورة مبهرة، من منظورهم، إلا أن الواقع علّمه ألا يُركز على الإبهار على حساب القصات والأحجام والأقمشة التي تخدم المرأة وتمنحها الأناقة والأنوثة والراحة. يعرف جيداً أن جون غاليانو واحد من هؤلاء، وربما يكون هو من أرسى المدرسة السريالية في العقود الأخيرة، لكن ما يشفع لغاليانو -حسب رأي مابيل- أنه «مصمم عبقري متمكن من أدواته. بين الطيات والأحجام الضخمة نجد دائماً في كل قطعة بعداً أنثوياً عميقاً، وهذا ما لا يقدر عليه أحد. قد يتهمني البعض بأني متحفظ ومحافظ مقارنةً بهم، لكن نظرتي الخاصة أن أجعل المرأة متألقة ومتميزة من دون مبالغات، ولحسن حظي أن أرقام المبيعات تؤكد أنني في الطريق الصحيح».
المرأة هي المرأة بالنسبة إليه، أياً كانت جنسيتها وبيئتها وعمرها «فأغلبهن يردن إطلالة أنيقة مفعمة بالأنوثة ومثيرة. ليس بالضرورة أن تكشف عن المفاتن، وليس دائماً لجذب أنظار رجل بل في أحيان كثيرة لإرضاء نفسها أو إثارة إعجاب وربما حسد قريناتها» يضيف ضاحكاً. «ثم إن دور الأزياء أولاً وأخيراً هو قدرتها على أن تعكس صورة إيجابية. لا يهم أن تكون هذه الأزياء مني أو من غيري، المهم كيف تنسّقها كل واحدة مع قطعة من فرساتشي أو جاكوموس أو زارا لتتميز عن غيرها».
الأمر يختلف في مجال الـ«هوت كوتير» طبعاً. فزبونة هذا الخط تبحث عن التفرد بأي ثمن، وترفض رفضاً باتاً أن تظهر في تصميم يشبه تصميماً ظهرت به امرأة أخرى، لا سيما إذا كانت تعرفها. المشكلة التي تواجهه دائماً في هذا الموسم، أي «الهوت كوتير»، تلقيه طلب على تصميم معين من مجموعة من الزبونات، أغلبهن عربيات. وعندما يوضح لهن استحالة الأمر لأنه بيع في البلد الذي يوجدن فيه، الأمر الذي يعني استحالة تكراره، تزداد رغبتهن فيه وكذلك فضولهن لمعرفة من تكون سعيدة الحظ التي سبقتهن إليه، «طبعاً أرفض أن أبوح لهن بذلك، لأن الثقة في هذه الحالة مهمة»، مشبهاً دوره هنا بطبيب جراح. فالهوت كوتير مثل الجراحة التجميلية، تحتاج هي الأخرى إلى كثير من الثقة بين المصمم والزبونة، والدقة في رسم المقاسات ونحت الأحجام. «دورنا هو أن نجعل التصميم يُبرز جماليات الجسم ويخفي العيوب». عندما ألفت نظره إلى أن هذه المهمة صعبة، يرد بأن الأمور تغيرت كثيراً عما كانت عليه، لأن المرأة أصبحت تعتني بنفسها وقوامها بشكل لافت»، مضيفاً: «كما أني أرفض أن أقدم لها تصميماً أعرف أنه لن يناسبها، وهنا أيضاً تلعب الثقة دورها. إن هي أرادت أسلوباً مثيراً للحواس مثلاً، فالخيارات أمامها كثيرة، من (جون بول غوتييه)، و(بالمان) إلى (سان لوران) وغيرها. أنا لست مع هذه الموجة لأني أومن بأن الأنثوي لا يعني المكشوف بل العكس تماماً، فإن الغموض أكثر أنوثة. ثم إن الموضة حالياً تتبنى الياقات العالية والأكمام الطويلة، والأمر ليست له علاقة بالدين بل هو حركة جمالية جديدة». يتذكر مبتسماً أن ما صدمه في بداية مشواره أن المرأة الخليجية عموماً والسعودية تحديداً، تغيِّر في تصاميمه أحياناً، كأن تضيف إليها أكماماً طويلة أو تُقصّرها، الأمر الذي أثار انتباهه وحفيظته معاً. فهي تشتري ما تشتريه بسعر غالٍ وهي تعرف مسبقاً أنها ستغيّره، «كنت أستغرب الأمر، لأن السعر ليس رخيصاً، لهذا وتفادياً لهذا الأمر بدأت أوفر لها هذه التصاميم، وأوفر عنها عناء اللجوء إلى خياط، على الأقل حتى أضمن رضاها من جهة، والإبقاء على القطعة كما هي ببصماتي كاملة».
يعود ويكرر أنه ليس متعنتاً أو مدللاً، بل فقط نضج وفهم اللعبة، مؤكداً أنه لا يعيش في برج عاجي، بل لا يزال يعشق رسم تصاميمه وحياكتها بنفسه، فضلاً عن تواصله مع كل من يتعامل معهم في مجال الموضة من زبونات أو عاملين. ومع كل ما له من استقلالية وحرية، وما يحققه من نجاح، إلا أنه لا يستبعد قبوله الانضمام إلى مجموعة ضخمة مثل «كيرينغ» في حال كانت الشروط في صالحه. يبرر ذلك قائلاً بأنه قد يفقد بعض الحرية، لكنه سيربح في المقابل دعماً قوياً نظراً إلى إمكانيات هذه المجموعات. ولا يتعلق الأمر هنا بالدعم المادي وحده، فإلى جانب الميزانية السخيّة «هم أيضاً يوفرون فرق عمل متخصصة في مجالات التسويق والترويج وغيرها من الأمور التي لها تأثير إيجابي ويصعب على أي مصمم مستقل وشاب أن يقوم بها وحده وعلى أكمل وجه». يضيف مبتسماً: «على الأقل يمكن أن يوفّروا عليّ تعب المفاوضات مع المحلات الكبيرة، لأنها لا تعرف ما تريده أحياناً. إن لم يغيّروا رأيهم في آخر لحظة بسبب الضغوط التي يعانون منها لبيع المنتجات التي وقع اختيارهم عليها، فهم يترددون في اتخاذ قرارات مهمة تتسبب في تضييع وقت ثمين». لكن أكثر ما يشجعه على التفكير في هذه الخطوة أن هذه المجموعات انتبهت أخيراً إلى أن بيوت الأزياء، مهما كانت صغيرة، تحتاج إلى مصمم يضفي على المنتجات ذلك الشعور العاطفي «منذ سنوات حاولوا تقليص هذا الدور وتحجيمه، لكنهم اكتشفوا مدى خطئهم».
ثم يجب ألا ننسى أنه ليس غريباً عن هذه المجموعات. فقد سبق له العمل معها في بداياته مع كلٍّ من «إل في إم آش» المالكة لـ«ديور» ثم «كرينغ» المالكة لـ«سان لوران» وبالتالي يعرف كيف تدير الأمور وتُدار. فأحياناً كثيرة تبدأ المشكلات بينها وبين المصمم من عدم المرونة في التواصل أو تعصب طرف ما لرأيه. «فقد يرفض المصمم مثلاً أمراً، ويتمسك برأيه كمبدأ. وسواء كان على حق أم لا، فإنني أرى أنه لا داعي لهذا الصراع، لأنه عندما يكون رأي المصمم مثلاً هو الصحيح، فإن الأيام تُثبت ذلك ويأخذ حقه».
ويتابع: «كلنا في البداية نكون أقرب إلى المحاربين أو المناضلين. نحلم بتغيير العالم وترك بصمتنا عليه، لكن بعد مرور السنوات نكتشف أنه إلى جانب الحلم علينا أن نبيع هذه الإبداعات، وإلا فإننا لن نستمر، وهذا يحتاج إلى قراءة جيدة وإلى مرونة في التعامل». هذا ما سماه الواقعية، أو بالأحرى زاوية أخرى للعمل لا تُلغي الإبداع بقدر ما تُغذيه.