تعتيم على سبب سجن المودودي

في الجزء الثاني من الحكاية، ومسعود الندوي ومحمد عاصم حداد، وهما يقرآن على العالم السلفي المغربي محمد تقي الدين الهلالي كتاب المودودي: «الجهاد في سبيل الله» أثنى على مضمون الكتاب وأسلوب البيان فيه، ثم سأل متعجباً: كيف تسمح الحكومة الهندوكية بمثل هذه الكتب؟!
اللبس والإلباس الذي يجب رفعهما هنا، أن هذا الكتاب وبعض كتب المودودي التي حملاها معهما من باكستان إلى العراق، سواء ما ترجم منها إلى العربية سلفاً أو ما كان قيد الترجمة، إذا ما استثنينا كتاب «الجهاد في الإسلام» ألّفها المودودي ما بين عقدي الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، وابتداءً من أول عقد ثلاثينات القرن الماضي كانت مشاركة حزب المؤتمر الهندي الذي كان أغلبه من الهنادكة أو الهندوس وهم كانوا مركز الثقل السياسي فيه قد زادت في مشاركة الإنجليز في السلطة أو الحكومة. وهو لم يتعجب من سماح الإنجليز بطبع كتب المودودي ونشرها، لأنه رأى أن هذا الأمر غير مستغرب منهم. فمما سجله مسعود الندوي في يومياته في العراق أن الهلالي كان يمتدح الإنجليز ويذم فرنسا. وكان يعتبر أن الحرية التي وفّرها الإنجليز لسكان القارة الهندية دليل على حسن نياتهم وحكمتهم السياسية. وكان مسعود الندوي مثله يرى بأن الحكم الإنجليزي أحسن بكثير من الحكم الفرنسي.
ومن بقية الحكاية نفهم من الهلالي أن السلطة الفرنسية لا تسمح لكتب مثل كتب المودودي أن تؤلف في مستعمراتها في شمال أفريقيا، ولا تسمح بدخول كتب المودودي إليها.
لا يبدو مفهوماً في الجزء الثاني من الحكاية قفز الهلالي في الاستنتاج بأن الحكومة الباكستانية التي هي حكومة إسلامية بعد تقسيم الهند إلى الهند وباكستان، ونيل هذين البلدين استقلالهما من الحكم الإنجليزي في عام 1947 قد اعتقلت المودودي (اعتقلت الحكومة الباكستانية المودودي مع بعض أتباعه من عام 1948 إلى عام 1950، وزيارة مسعود الندوي ومحمد عاصم حداد إلى العراق كانت في عام 1949) بسبب تأليفه الكتب التي قرئت عليه، لأنه كما قال تطيح بأسس الفسق والفجور! مع معرفته بأنها ألفت تحت ظلال الحكم الإنجليزي، وفي الفترة التي زادت فيها مشاركة حزب المؤتمر الهندي في الحكم!
لكن من المفهوم أن مسعود الندوي تركه يذهب نحو ذلك الاستنتاج الخاطئ. فمن يومياته نعلم أن الهلالي قبل حصول تلك الحكاية، كان سعيداً ومسروراً بالكيان الإسلامي الجديد، دولة باكستان، الذي دعا إلى إنشائه حزب الرابطة الإسلامية، وتولى هذا الحزب حكم بكستان بعد استقلالها. تركه يذهب نحو ذلك الاستنتاج الخاطئ، لأن المودودي قبل أن ينشئ جماعته وبعد أن أنشأها كان معادياً لذلك الحزب، وكان أصلاً ضد قيام كيان سياسي خاص بالمسلمين. ومع قيام هذا الكيان شن حرباً عاتية على حكومته.
يعلل مسعود الندوي حسن ظن الهلالي بحزب الرابطة الإسلامية بأنه «ترك (مدينة) لكهنؤ سنة 1933. في تلك الفترة لا يمكنه أن يقدر الضرر الذي أحدثته حركة مسلم ليغ (حزب الرابطة الإسلامية) في الحالة الدينية العامة، والحالة الاجتماعية للمسلمين، وكان من فضل الله أن مطبوعات الجماعة الإسلامية موجودة، تؤدي واجبها، وجهود مولانا إلياس، يقصد محمد إلياس الكاندهولي مؤسس جماعة التبليغ كانت تثمر بين عامة الناس، وإلا فلو لم توجد هاتان الحركتان، لمضت باكستان والهند أيضاً على خطى تركيا وإيران»!
لقد وجد مسعود الندوي في ذلك القفز في الاستنتاج فرصة ذهبية في أن يغير الهلالي موقفه المتحمس للحكومة الباكستانية الجديدة إلى موقف لافظ ورافض لها. لذا فهو لم يصارحه بالسبب الحقيقي لسجن المودودي، الذي كان هو السجن الأول الذي تعرض له في حياته.
والحق أنه لم يصارحه ولم يصارح غيره بذلك السبب في يومياته الموسومة بـ«شهور في ديار العرب» والتي سجل فيها يومياته أثناء زياراته لبعض مدن العراق وبعض مدن السعودية. فهو حتى حين سئل مباشرة عن السبب راغ عن الإجابة وغير الموضوع.
المودودي كان قد سجن بسبب نشاطه السياسي وليس بسبب تأليفه كتباً. ومن نشاطه السياسي دعوته هو وجماعته المواطنين الباكستانيين إلى عدم الاعتراف بشرعية الحكومية الباكستانية وعدم مبايعتها ما لم تستجب إلى تنظير المودودي السياسي والاجتماعي والاقتصادي والآيديولوجي الذي تكون به الدولة دولة إسلامية حقة. وصنع تحالفاً سياسياً إسلامياً مع قوى دينية إسلامية لمنع الحكومة من كتابة دستور للبلاد، يرى هو أنه كتب بصيغة علمانية منافية لشكل الدولة الإسلامية وروحها.
وكانت ذروة نشاطه السياسي ما يسميه الباكستانيون وقت ذاك بفتوى كشمير والتي بسببها سجن هو وبعض أتباعه، وهي قوله بأن حرب باكستان في كشمير ليست جهاداً، لأن معاهدات باكستان مع الهند لم تنقض وأن حرب باكستان في كشمير لم يصحبها إعلان حرب على الهند. ويجب أن نعرف أنه في الفترة التي نشبت بها تلك الحرب كانت حرب باكستان في كشمير عزيزة على الباكستانيين ومصدر فخر لهم، مما سبب تناقصاً في شعبية المودودي عند المعجبين به وعند العاطفين والمتعاطفين معه ومع حركته، حركة الجماعة الإسلامية. بعد هذا التوضيح نفهم لماذا كان مسعود الندوي يتكتّم ويعتّم على سبب سجنه. بعد ذلك التكتّم والتعتيم الذي مارسه مسعود الندوي في ذلك العام المذكور راح أتباع المودودي الذين كتبوا عنه حين التعرض إلى موقفه في تلك الحرب يقولون إن نزعه صفة الجهاد عنها، محض إشاعات وأكاذيب أطلقتها ولفقتها الحكومة الباكستانية وقتها.
الهدف من إيراد حكاية الإسلامي الهندي مسعود الندوي مع الإسلامي السوري محمد كمال الخطيب ومع العالم التقليدي محمد تقي الدين الهلالي، كان للتدليل على سرعة تأثر الإسلاميين والعلماء التقليديين في البلدان العربية بالمودودية الجهادية. ومن المفيد أن نذكر هنا أن أفكار المودودي في مسألة الجهاد وفي مسائل غيرها انسابت في وديان الفكر الديني الإسلامي في البلدان العربية بيسر وسهولة ولم تجابه من قبل المؤسسات الدينية أو من مثقفين إسلاميين مستقلين باعتراض، أو مراجعة أو مساءلة، أو على الأقل إبداء ملحوظات نقدية عليها في إطارها الكلي أو في بعض أجزائها إلا في لحظة مؤقتة وعابرة في مصر مع اكتشاف التنظيم المسلح الذي كان يقوده سيد قطب في عام 1965. ولم يستأنف إبداء ملحوظات نقدية حول بعض أفكاره إلا ابتداء من أوائل عقد ثمانينات القرن الماضي.
والهدف من إيراد تينك الحكايتين، وبخاصة الحكاية الأولى، إثبات أن الرأي السائد والبارز في الفكر الإسلامي الحديث في العالم العربي، هو أن الجهاد في الإسلام هو جهاد دفاعي وليس جهاداً هجومياً، وإثبات أن هذا الرأي كان محل مؤاخذة وموضع نقد عند الإسلاميين المودوديين الهنود، وأنهم كانوا يسعون إلى تغييره. وهذا ما نص عليه مسعود الندوي في بداية مجادلته مع محمد كمال الخطيب.
هاتان الحكايتان حصلتا في عام 1949، وبحسب ما ذهب أستاذنا رضوان السيد أنه هجوم ورد على تنامي ربط الجهاد بالكفر ألف محمود شلتوت شيخ الأزهر كتابه «القرآن والقتال» في عام 1949. وكما نرى فإن هاتين الحكايتين تقدمان صورة معاكسة لما قاله أستاذنا. ففي العام الذي صدر فيه كتاب الشيخ شلتوت، وهو عام 1948، وليس عام 1949 كما سبق أن أو ضحت ذلك في مقال سابق، كان الرأي السائد والبارز في الفكر الإسلامي الحديث في العالم العربي لا يقول بربط الجهاد بالكفر.
وإذا ما أخذنا بالعام الذي حدده أستاذنا لصدور كتاب الشيخ محمود شلتوت، فإن قضية تنامي ربط الجهاد بالكفر، تكون حسب تصوره ما بين عامي 1849 و1949. والعام الأول كان هو العام الذي ولد فيه الشيخ محمد عبده، حيث لا يوجد في مصر أو في العالم العربي من يقول بأن الجهاد في الإسلام هو بغرض الدفاع وليس الهجوم. إذ إن محمد عبده هو أول من قال بهذا الرأي في مصر وفي العالم العربي. وقد قاله في محاجته مع هانوتو وزير الخارجية الفرنسي رداً على مقال كتبه الأخير في أول سنة من القرن الماضي.
وعلى عكس ما قاله أستاذنا، فإنه في منتصف الفترة التي حددها، أي مع مطلع القرن العشرين، بدأ في العالم العربي نشأة الرأي الذي لا يربط الجهاد بالكفر. وتنامى هذا الرأي في الحقل الديني مع فتوى رشيد رضا التي تحدثنا عنها في مقال «الحركات الجهادية في الهند: رؤية أخرى». وهذه الفتوى يعود تاريخها إلى عام 1904، وتنامى مع المحاضرات التي ألقاها الشيخ عبد الوهاب خلّاف في مدرسة القضاء الشرعي في عام 1923، ثم جمعها في كتاب عنوانه «السياسة الشرعية أو نظام الدولة الإسلامية في الشؤون الدستورية الخارجية والمالية» الذي طبع في عام 1931، وتنامى مع كتاب الشيخ محمود شلتوت الأصل «الدعوة المحمدية والقتال في الإسلام»، الذي طبع في عام 1932.
ولا يخفى على أستاذنا أن الفقيهين خلّاف وشلتوت كانا من أتباع مدرسة الشيخ محمد عبده العقلانية العصرية. أما خارج ذلك الحقل الذي يمثله الفقهاء ورجال الدين، فلقد كان للمثقفين الليبراليين في مصر الذين يتطرقون إلى قضايا إسلامية وقضايا في التاريخ الإسلامي ابتداء من ثلاثينات القرن الماضي، إسهام كبير في إشاعة وتسييد الرأي القائل بأن الجهاد في الإسلام هو لغرض الدفاع وليس الهجوم والتوسع. وللحديث بقية.