دراما وفكر وسياسة في قالب أدبي

في يوم هادئ بدأت سلسلة حلقات المسلسل الإسباني «قلعة بجوار البحر» فقضيت ليلتي أمامه بلا توقف في حالة تفكر وتدقيق تاريخي يتخللها نوبات من التراجيديا، فهي رواية للمؤلف الإسباني «يديفونسو فالكونس»، وسرعان ما سعيت لقراءة الرواية نفسها والتي اختلفت بعض الشيء عن دراما الحلقات وهو أمر طبيعي، ولكن متن الرواية يظل مجسداً بدقة فيها، فهي تدور في القرن الرابع عشر في مدينة «برشلونة» وتُشبه إلى حد كبير رائعة الأديب الفرنسي «ألكسندر دوما» المعروفة «بالكونت دي مونتي كريستو» ولكن بشكل أكثر عمقاً وفكراً لأنها تُجسد أحوال المدينة آنذاك من خلال هروب أحد الأقنان من الإقطاعي بعد تعدي الأخير على زوجته في يوم زفافها استناداً للقاعدة التي قيل إن أحد ملوك إنجلترا أرساها وانتشرت في أوروبا والمعروفة «بالليلة الأولى Prima Nocta»، وتحكي الراوية هروبه بابنه الرضيع بعد ذلك إلى «برشلونة» وتطور حياتهما في ظروف إنسانية قاسية للغاية تحت وطأة الفقر والطاعون والحروب والطبقية الاجتماعية المتطرفة والجهل، فضلاً عن تسلط الكنيسة الكاثوليكية ودورها السلبي في السياسة وغيرها من الأمور الهامة التي شرحت المجتمع الأوروبي في ذلك الوقت.
وتقديري أن التجربة التي مررت بها سواء من خلال قراءة الرواية أو مشاهدة الحلقات يمكن تجسيدها في المشاهد التالية:
المشهد الأول يصور نوعاً من العبودية الحديثة المرتبطة بمفهوم الرق، وهو نظام سياسي- اجتماعي- اقتصادي ظهر في أوروبا أول ما ظهر بعد هزيمة المسلمين في معركة «بلاط الشهداء» من قبل الملك «شارل مارتل» والذي بمقتضاه قام بتوزيع ملكية الأراضي في فرنسا على قادته مكافأة لهم، ثم تطور هذا المفهوم تدريجياً في سياقه التاريخي إلى أن أصبح الإقطاعي هو المالك ليس فقط للأرض ولكن لمن عليها من المزارعين والعاملين والخدم، حتى سُمح له باستباحتهم بأي وسيلة يراها بلا قانون أو رقيب، وهو نظام لا يتفق شكلاً وموضوعاً مع المسيحية وسماحتها، ومع ذلك فالكنيسة لأسباب مرتبطة بمواءماتها السياسية لم تتعرض له، فانتهى الأمر بانتهاك الكنيسة والساسة المواطن على حد سواء.
المشهد الثاني وارتباطاً بما تقدم، كانت الحالة الفكرية للمواطن البسيط غير المتعلم والذي يمثل الأغلبية المطلقة من مواطني المدينة، فهم لا يُرجعون تسلسل المصائب المتتالية التي يشهدونها إلى الظرف التاريخي والمكاني واستباحة السلطتين الزمنية والكنسية لهم، بل إنهم يُرجعون ما يحدث لهم إلى ما يعتقدون بأنه مرتبط بضعف إيمانهم وأن الرب يعاقبهم لخطايا قد لا تكون واقعية أصلاً، وهو ما يُذكرني بكتيب قرأته تجميعي لفقرات من كتاب المؤرخ العظيم «المقريزي» يستعرض فيها المصائب التي مرت على مصر على مدار قرون ممتدة من جفاف وفيضانات ومجاعات وأوبئة والتي يُرجعها أيضاً لضعف الإيمان، وهو ما استوقفني كثيراً، فهذه العلية تحتاج لإعادة نظر فورية لأن الطبيعة تحتاج لشرح علمي للظواهر التي تُحدثها، وبالتالي فإن أسوأ ما يمكن أن يحدث هو إلقاء المسؤولية واللوم على المواطن الجاهل البسيط لتبرير هذه الظواهر الطبيعية وتصويرها على اعتبار أنها غضب من الرب.
المشهد الثالث يرتبط بالصراع بين السلطتين السياسية والدينية، الأولى ممثلة في الملك والثانية في الكنيسة ممثلة في «محاكم التفتيش» وهي الأداة التي صاغتها لضمان نقاء الملة من الهرطقة
والكفر، والتي وجب عليها استخدام كل الوسائل وعلى رأسها الحرق حياً لضمان العبرة والقصاص، والغريب أن بعض المشاهد خلقت حالة تعاطف شعبي مع هذه المحاكم خوفاً من الرب، وإن كانت النهاية قد عكست ثورة شعبية ضدها لإنقاذ بطل الرواية، وقد أكدت الرواية الحقيقة الراسخة بأن تعذيب وحرق الجسد أو الكتاب لا يحرق معه الفكر، ويلاحظ أن السلطة المدنية لم تتدخل في نهاية المطاف لإنصاف العدل، بل لأن البطل في حالة حرقه وثبوت التهمة عليه فإن أمواله ستؤول للكنيسة، وهو ما سيجعل الملك مديناً لها!
المشهد الرابع وهو المرتبط بالتعامل مع غير الكاثوليك في مجتمع برشلونة، فتاريخ الرواية يسبق أكثر من قرن صدور «مرسوم الهمبرا» عام 1492 الذي بمقتضاه تم طرد المسلمين واليهود من إسبانيا بعد توحيدها بمائة عامة، ولكنه عكس حالة الجهل لدى المواطن البسيط بإرجاع المصائب إلى غضب الرب ليتحمله غير الكاثوليك وعلى رأسهم المسلمون واليهود، فكانت الثورات عليهم ممتدة، ولكنه أغفل سوء معاملة المسلمين والذين كانوا بطبيعة الحال مواطنين في الدرك السابق لليهود، وهو أمر منطقي لاعتبارات الربط بين صلب السيد المسيح واليهود، وهو المعتقد الذي لم يُفض إلا في ستينات القرن الماضي عندما برأ مرسوم من البابا اليهود من دم السيد المسيح.
لقد عبرت بي الرواية بوابات هامة في تاريخ التقدم البشري وأعادت تجسيد مفاهيم كثيرة أقرأ وأكتب عنها، وبعد حروب عاطفية داخلية مع مشاهد المرض والفقر والجوع والعري والحروب وتسلط القائمين على الدين والسياسة على المواطن البسيط، فقد وجدت نفسي أقتنع شيئا بشيء أن أخطر مصائب الإنسانية ليست في الكوارث الطبيعية أو الفقر أو المرض، بل إن أخطر عدو للإنسانية سيظل الإنسان نفسه.