صوت العقل في «حفل» الأزمات

أتابع بشغف ما يجري على خريطة السياسة الدولية لأكثر من دافع. لكن بعض القضايا تشدني إليها ميكانيكية إدارتها بين أطراف متعددة. تتضارب مصالحهم وتتناقض أهدافهم أحياناً، مع فوارق في طبيعة الأنظمة التي تحكم بلدانهم وقدرات كل كيان من الناحية الاقتصادية والعسكرية. هناك عامل واحد يجمعهم ويبدو الجميع وكأنهم فريق واحد متناغم متناسق في لعبة اسمها السياسة. أمور كثيرة تشغل الناس على امتداد العالم الذي نعيش فيه، يتخاصم الكبار والصغار حول ما تلده مسيرة الحياة، لكن إدارة الأزمات تكدس الأسئلة أمام الخصوم، وإن ربطتهم خيوط مشتركة في الثقافة والموروث الاجتماعي. أوروبا اليوم تعيش أكثر من قضية ساخنة، أولها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. مفاوضات طويلة وشاقة ابتداء من المبلغ الذي ستدفعه بريطانيا إلى الاتحاد مقابل الخروج، وترتيبات العلاقة بين الطرفين بعد الاتفاق على الوضع الجديد. في داخل بريطانيا المعركة، أقول المعركة ذات شُعب شتى. أولها الخلاف داخل حزب المحافظين الحاكم، هناك الجناح المتشدد الذي يطالب بطلاق بائن وشامل مع الاتحاد في كل شيء، وآخر يرى الإبقاء على خيوط تواصل في بعض المجالات مثل الجمارك وغيرها. موضوع آيرلندا الشمالية، وهي جزء أساسي من بريطانيا التي تصر أن يكون لها وضع خاص مع الاتحاد الأوروبي. الوزير السابق للخارجية المتشدد جونسون غادر الحكومة غاضباً وهو من رموز حزب المحافظين الحاكم، لم يخف معارضته لإدارة رئيسة الوزراء تيريزا ماي لملف الانفكاك عن الاتحاد الأوروبي ويطلق همسات الترشح لزعامة الحزب. أما حزب العمال المعارض فقد وجد في محفل التراشق السياسي والإعلامي ما يرفع درجة حضوره السياسي شعبياً، ويوفر له أوراقاً انتخابية إضافية ويتحين الفرصة لاتخاذها سلماً إلى 10 شارع داوننغ، حيث عرين الحكم. الانتخابات المبكرة قد تكون الثمرة التي يجنيها الحزب من شجرة الطلاق مع الاتحاد الأوروبي. وتبقى مشكلتا آيرلندا واسكوتلندا قوة ترفع وتيرة انتهاز الموقف للحزب.
قد يبدو المشهد مناسبة اجتماعية لا سياسية، أو حفلاً موسيقياً طويلاً. مجلس العموم البريطاني بتقاليده وطقوسه يرسم العقل السياسي البريطاني. تصميم المقاعد وأوضاع الجالسين في كراسيه القديمة، ولغة الأجساد والحركات التي تعبر عن التأييد أو المعارضة، تجعل من السياسة مهرجاناً للاحتفاء بالاختلاف. وسائل الإعلام البريطانية تسخن فعاليات الحدث بإيقاعات فيها نمنمات الاصطفافات السياسية والأفكار الاقتصادية التي يتزاحم فيها الأكاديميون والإعلاميون، ولا تخلو من رشات النميمة السياسية التي تمثل الغلاف السكري المحفّز للعامة على المتابعة بحماس متواصل. طبعاً ليس كل ما يدور داخل غرف التفاوض يطفو على الصفحات أو الشاشات، وإن حدث يكون في أوانٍ غير تلك التي على طاولات التفاوض. كل ذلك يجعل من السياسة كائناً حياً مألوفاً يرافق الناس في مسارب الحياة اليومية، يتقاسمون مع محترفي السياسة معزوفة الأسئلة والإجابات والاحتمالات التي يرفع من حرارتها التباين والاختلاف والاتفاق. الجميع، السياسي ورجل الشارع كما يقال يدركون أن الأمور المصيرية هي ملفات مشاعة، كل يساهم فيها بصوت يتناغم في جوقة بإيقاعات متناسقة تصنع الرأي الذي يشعل الأضواء الوطنية.
في إيطاليا، يشتعل الرأي العام في السياسة والرياضة والفن، لكن الاقتصاد يبقي الحلقة التي لا تضيق أبداً. الإيطاليون شعب اجتماعي بامتياز، يقدسون التواصل والحديث في التفاصيل. الرياضة تجمع الناس وتفرقهم، كل يتعصب لفريقه. المقاهي محفل آخر للنوادي الرياضية، يلتقي المشجعون في حلقات لتحليل المباريات، هذا يتعصب لهذا اللاعب وذاك لآخر. لكن الأزمة الاقتصادية تطفو فوق كل ما عداها، الفن والرياضة والموضة والأكل. العجز في الميزانية مهول وغير مسبوق. البرامج الانتخابية التي ساقها حزبا «رابطة الشمال» وحزب «النجوم الخمس»، بالغت في الوعود المالية، رفعت سقف الأمل، لكن الحقائق صدمت الناس. موقف الاتحاد الأوروبي من خطة الميزانية الإيطالية والخلاف الذي على أشده بين الاتحاد والحكومة الإيطالية بسبب العجز الكبير في الميزانية الإيطالية انعكس إحباطاً كبيراً على الرأي العام الإيطالي. طرفا الحكومة هم من الشباب القادم حديثاً لمعترك السياسة بكل مساراتها. خطابهم الشعبوي الذي يجمعهم يرفع من وتيرة السيادة الوطنية، يعلي القرار الوطني على المركزي الأوروبي، يعد الناس بوطن مزدهر حر متقدم، لكن الواقع يدفع بحقائق صادمة. الدين العام ثقيل، والبطالة والغلاء تضغط على صدر الحياة، ولا ملجأ إلا أوروبا التي وعد الحزبان في حملاتهما الانتخابية بعدم الرضوخ لقراراتها. تجربة اليونان شاهد يقف أمام العقول ويقفز فوق أحلام الوعود الانتخابية. لقد سقطت اليونان منذ سنوات قليلة في هوة العجز، بل الإفلاس، وكان الاتحاد الأوروبي طوق النجاة. وسائل الإعلام الإيطالية المكتوبة والمرئية هي جيش مستنفر دائماً يبحث عن معركة. أزمة الميزانية ساحة يندفع لها الجميع، بصوت أو صورة أو قلم. البرلمان المتعدد الألوان السياسية يجول في حلبة الكلام بقوة ولكل عضو دافعه ومبتغاه. السياسيون والإعلاميون والأكاديميون المختصون في علم المال والاقتصاد يقدمون للمواطن وصفة مركبة جداً. توصيف الأزمة، تفاصيلها، أبعادها، العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، الحلول. كل ذلك يُدخل الناس إلى حلبة المبارزة الكبيرة التي يصل غبارها إلى كل بيوتهم. الإيطاليون اللغة قرين لهم، بها يعبرون ويعيشون في كونها ويخلقون منها حفلات للحياة يعبرون بها حفر الأزمات. أوبرا تتعدد فيها الأصوات والموسيقى ارتفاعاً وانخفاضاً لتصنع الطرب والفرح.
المشكلات بل الأزمات يقترب منها العقل بصوته أولاً، يخلق معها نغماً مروضاً للأطراف، يلتقي الجميع على موائد الكلام في مجالس القرار ومضارب الرأي العام ويتحول الخلاف إلى حفلة حوار فيها من معزوفات الساسة وإيقاع الإعلام وصخب الجمهور.
صوت العقل ـ قوة ضاربة، تقتحم أعتى الأزمات، تعبئ القوى الحية على اختلاف مواقعها لتكون الجيش المدرع القادر على خلق حالة توافق اجتماعي في حفل الاختلاف.