الشاعرة المصرية حنان كمال: الشعر ملاذي للتعايش مع الألم

في رحلتها الطويلة مع المرض والتعايش الشاق معه، لم تجد الشاعرة والفنانة التشكيلية المصرية حنان كمال، سوى الشعر، يحنو عليها ويخفف من آلامها... في ديوانها الأول «كتاب المشاهدة» لم تستند إلى قضايا كبرى، لكنها اتكأت على كل ما هو إنساني ويومي وبسيط، اختزنته في روحها وحولت آلامها ومعاناتها إلى طاقة أمل في نصوص قصيرة جداً بلغت ستا وخمسين قصيدة نثرية، طبعتها حديثاً دار «ميريت» القاهرية، وشكلت من تفاصيلها جميعاً لوحة شعرية كلية تستحق التأمل، وقد استفادت خلالها من كونها فنانة تشكيلية أيضاً، فجعلتها تزدهي باللون والظل والإيقاع الزاخر بالحياة. فيما يأتي حوار معها أجري في القاهرة حول الديوان ورحلتها مع المرض.
> ما الذي دفعك لكتابة الشعر فيما تحققين خطوات واسعة في مجال الرسم؟
- في البداية كانت الأفكار تأتي لي وأنا أقود سيارتي، وقتها كانت تتلبسني حالة من البكاء، فأتوقف إلى جانب الطريق، ثم أبدأ في الكتابة وحين أنتهي أعاود القيادة مرة أخرى. بعد فترة وجدتني كلما داهمتني فكرة ما، أستسلم لها وأقوم بصياغتها، ثم أنحيها جانبا إلى أن قررت طباعتها في كتاب بعد أن شجعني على ذلك الكثير من الأصدقاء، لأقف على مسافة فاصلة بيني وبين كل ما يحدث لي وكأنني في عالم آخر.
> لكن لماذا الشعر بالتحديد وليس القصة أو الرواية؟
- بالأساس لم أكن مغرمة بالشعر، والمفاجأة أنني لم أكن أبدا متصالحة مع فكرة الشاعرية والغنائية، لكن ما حدث أن ثمة تجربة إنسانية جرت داخلي، كان علاجها الوحيد أن أقف من حياتي كلها موقف المشاهدة، كانت هذه الحيلة المناسبة لأتخلص من الألم، أن أقف على مسافة فاصلة بيني وبين كل ما يحدث لي، وكأنني في عالم آخر، فكانت هذه النصوص هي خلاصة المشاهدة.
وقد اعتقدت أني قد لا أكتب الشعر مجدداً لأنه اقترن بقدر كبير من الألم، وأنا كشخص كل ما أريده أن أتجنب الألم. أحياناً يسألني بعض الأصدقاء، كيف استطعتِ أن تكتبي كل هذه النصوص المتفجرة بالطاقة الشعرية؟ ولطالما كان ردي أن «هذا ما أملاه علي العفريت»، فأنا أشعر فعلا أنني لست من كتب كل هذه النصوص، لأنني عملية وواقعية أو هكذا أظن نفسي، ولا أستطيع تحمّل شاعرية القصائد.
عندي مشكلة أن الناس تتعامل معي على أني الكاتبة مريضة السرطان، وهذا التوصيف الذي يستدعي التعاطف يصيبني بكثير من التوتر، فما أريده هو أن يحب الناس نصوصي وقصائدي، لا أن يبكوا من أجل ألمي كإنسانة، فتجربتي مع الألم والفقد تتجاوز تجربة السرطان لما هو أبعد وأكثر إيلاماً، قد يبدو هذا واضحاً في الكتاب.
> لكن، لماذا لم تكتبي الرواية، ربما تكون الأقرب لتفاصيل هذه الرحلة؟
- كنت أتوقع أن أكتبها، لأنني أحب التفاصيل اليومية، لأني محررة، وأنتمي للصحافة الاستقصائية، لكن هذا الديوان كان رحلة الهروب من هذه التفاصيل بعد ما غدت مؤلمة، وفيها سوف تجد افتقاداً لليومي، وحنيناً لسخونته وطزاجته، تحليقاً في أجواء سماوية وشاعرية مستعارة.
حين اتجهت لكتابة القصائد هذه، لم أكتب طبقاً لتصورات مسبقة، لأنني كنت أتوقع أن اللغة عندي ليست قوية كما ينبغي، كما أنني لم أنتبه مطلقاً للموسيقى والعروض والإيقاع، مثل كل الذين يبدأون طريقهم في مجال الشعر، وأتحسب لانتقادات واسعة في هذا السياق، لكن ما أعرفه أنني أجيد التعبير عن المشاعر برهافة تتناسب مع حجم الألم، وقد سعيت لأن يكون ما أعبر عنه حقيقياً وطازجاً، وليس مفتعلاً أو مبتذلاً، فكل ما كتبته مرّ من خلال روحي، وربما هنا تكمن قيمته الحقيقية بعيداً عن المقاييس المتعارف عليها.
> يتجلى الموت في معظم قصائد الديوان بوصفه كائنا يمكن أن يكون صديقاً، أو شخصا يخاف الضوء، ويعتريه الارتباك، ما السر وراء هذه الرؤية في شعرك؟
- أنا أعيش مع الموت فعلاً، أقترب من حافته كثيراً، حتى حدثت بيننا ألفة، تخلصت من الخوف منه فصار وديعاً، وأعتقد أنني حين تخلصت منه صار هو يخاف من صلابتي.
الموت يقتات على هشاشتنا، لكنني أعترف أنه الصديق الذي عرَّفني على الحياة بشكل أفضل، فصرت أحياها بجسارة أكثر، وقد عرفت أن الاقتراب من الموت يفك ألغاز الحياة، هذه الثنائية لن تدركها إلا حين تنسحب من ضوضاء الكون وتصغي، وقد حدث لي هذا بينما كنت أعتقد أنني بصحبة الموت أعبر البوابة الأخيرة فإذا بي أرقص مجدداً مع الحياة.
> هناك نوع من المشهدية يسيطر على أسلوب الكتابة لديك، صورة نسعى إلى رسمها من الطبيعة والأشياء من حولنا، ومعظمها ينتمي لعالم الفراشات والغروب والموج والأشجار. ما سبب هذا المنحى، رغم كل الخراب الذي يحيط بنا؟
- حين وضعت نفسي أمام حياتي في مقام المشاهدة تحولت الحياة ذاتها لحلم، ربما تبدت لي الطاقات الكامنة في الأشياء. رأيت الحياة تنبض في كل ما حولي، كان المشهد ساحراً حتى أنني أود أن أظل في مقام المشاهدة دائما، أحدث العشب والطيور، والبحر والنهر والزمن والتاريخ، هذا التواصل مع الكون مذهل لكن له شروط، أهمها الانسحاب ولو جزئياً من معركة الحياة، التناغم مع الكون قرين المحبة، فحين تحب الكون والأشياء تلمس سرها، وسرها يكمن في أنها حيّة وتتواصل معنا، وقد انسحبت من الخراب لأني لم أعد أحتمل ثقله على القلب. هذا الانسحاب هو ربما ما نقلني لعالم المشاهدة من بعيد.
> في شعرك أيضا هناك بعد فلسفي يمكن ملاحظته في النظر إلى قضايا الخلق والحياة... كيف ترين الفلسفة كرافد للشعر، والكتابة الإبداعية؟
- الفلسفة كلمة كبيرة جداً على ما نصنعه. ليست فلسفة لكن ربما هي محاولة فردية لفهم العالم، حينما تقف عاجزاً عن فهم العالم في صورته البسيطة تخلق له معادلة جديدة. صمت الموتى مثلا كان جزءاً من رحلتي مع الموت، أعتقد أنني عشت تجربة الموت أثناء الحياة، استشعرت الموت حقاً، هي منطقة مظلمة نعم، لكن بالتأمل فيها تكتشف أنها تمنحك فهماً للعالم والكون لن تجده وأنت واقف في المنطقة الآمنة السرمدية، الآلام التي لا تنتهي، الحياة التي لا تنتهي، أعتقد أن جزءاً ما بداخلي صار يربط الحياة بالألم ربطاً لا خلاص منه.
> أنسنة الأشياء ملمح هام داخل قصائد الديوان، ما الذي تسعين للإشارة إليه من خلال هذا المسعى الحداثي، كما تقولين؟
- «أشم رائحة النهايات
كرائحة العشب في المطر... كرائحة الصدأ.
أحب الصدأ
لأنه علامة المحبة التي جمعت النهر بالجسر».
> كيف يمكن أن يقترن الصدأ بوصفه بابا من أبواب النهايات بعلامات الحب؟
- كما قلت لك هي ليست أنسنة، هو استشعار للحياة في صورها الكامنة، أنا مثلاً في حياتي العادية أطلق اسما على سيارتي وأحدثها أحيانا، أعتذر منها إذا ما أرهقتها، وأشكر محبتها لي. أطلق أيضاً اسما على مسبحتي وأعطرها وأدللها، ربما هذا انعكاس لحاجتي للائتناس للصداقة الدائمة، للمحبة الدائمة بيني وبين الكون. وأعتقد أن هذه حقيقة، وليست مجازاً.
> أهي رؤية للفناء بحسب ما يفكر الصوفيون؟
- ربما هي رؤية الفناء في الحب، الصدأ أيضا علامة القدم والقدم علامة الأصالة، علامة الاحتكاك بمؤثرات وتجارب، كالندوب التي تتركها قطرات المطر، كاللون الكالح، أو الملوح جراء التعرض للشمس، كل هذا يعني أنك مررت بالتجربة، أنك لم تكن محمياً في قوقعة مخملية، ويعني أنك تعيش حقا، وأن ثمة حياة مرت من هنا، والحياة لا تدللنا قدر ما تترك ندوبها علينا، هذه الندوب جميلة بالفعل.