السياحة القريبة لا تشفي!

سمعنا كثيرا عن مشروع التقسيم في لبنان ليصبح على نسق الكانتونات السويسرية (مع فارق كبير بالطبع)، لأن وضع سويسرا وتقسيماتها فهو بفعل اللغة والجغرافيا، أما وضع لبنان فهو بسبب التنوع الطائفي وارتباطه الوثيق بالجغرافيا.
لا تقلقوا، مقالتي ليست سياسية بل سياحية، لأن الفكرة منها بدأت من خلال حديث مع صديق مميز لقبه «غوغل الشرق الأوسط» لأن معرفته أشبه بمحيط من الحكمة والمعلومات المفيدة، والحديث بدأ عن عدم معرفته للمناطق اللبنانية التي لا تقع في كانتونه، لأننا ننحدر من منطقتين بعيدتين جغرافيا عن بعضهما، ولفتني أنه حتى «غوغلنا» لا يعرف كثيرا من المناطق اللبنانية، لأن السياحة الداخلية في لبنان كانت محرمة على اللبنانيين بسبب الحرب. فلا أنا أعرف مناطقه ولا هو يعرف مناطقي.
وضحك كثيرا صديقي العزيز عندما أفصحت له بسر لا يعرفه إلا قليلون بأني عندما كنت صغيرة كنت أظن أن لبنان ينتهي عند مبنى مطار بيروت.
هذا الأمر محزن لأن لبنان بلد صغير جدا، ومن الصعب أن نصدق أن سكانه لا يعرفون جميع مناطقه، ولكنهم معذورون لأن حجتهم هي الحرب والتقسيم الضمني للبلد، ولكن العتب على سكان البلدان الأكثر حظا من لبنان، أي تلك التي لم يعش سكانها الحروب بشتى أشكالها، فهنا أحزن عندما أرى أي شخص يعيش في بريطانيا ولندن تحديدا ولا يعرفها جيدا.
أمس كنت بمحاذاة نهر التيمز، وشعرت بأني سائحة في البلاد التي عشت فيها أكثر من نصف عمري حتى الآن، كانت الضفة الجنوبية للنهر مليئة بالسياح، وربما قد أكون البريطانية الوحيدة التي كانت هناك، لأن زيارتي كانت في مطلع الأسبوع في وقت يعمل به الناس في المكاتب، وعندما شاهدت روعة المباني المتراصة على جانبي النهر وروعة العمران وعين لندن الشاهقة وضخامة المسرح الوطني ومنصات بيع الكتب القديمة المستعملة والفريدة، حزنت على نفسي وعلى كل من يهمل السياحة الداخلية.
والمحزن أيضا هو أن العرب المقيمين في لندن لا يخصصون الوقت للتعرف على مدينتهم، فمن لا يعرف بلده الأصلي لديه حجة مقنعة ولكن بصراحة لا أعتقد أن هناك عذرا لشخص يعيش في مدينة سياحية مثل لندن ويجهل معالمها ولا يكلف نفسه للمشي في طرقاتها ويخصص الوقت لقراءة الكتب عنها للتعرف إلى تاريخها وربطه بواقعها.
السياحة الداخلية تشفي لأنها دواء للاقتصاد في المقام الأول وتشفي العقول وتغذيها وتجمع العائلة وتسليها وتقدم كثيرا لمن يفهمها ويرنو لحل ألغازها.
من المؤسف أيضا أن ترى شخصا عاش في بلد غربي طوال حياته ولا يعرف إلا الطريق الذي يربط سكنه بعنوان عمله، ومن المخزي أيضا ألا نعطي الوقت الكافي للمدينة التي احتضنتنا كعربون شكر ووفاء.
فسحة قصيرة لي على ضفة النهر جعلتني أرى الأشياء من منظار آخر، فعندما تختلي بذاتك وترى الأشياء بعين سائح لا ساكن، ترى المعالم بشكل آخر، لا بل ترى مباني وأماكن تمر بجانبها كل يوم ولكنك لا تراها.
السياحة تبدأ من الداخل، فمن لا يعرف كيف يسافر بين ثنايا مدينته فالسفر إلى الخارج خسارة فيه ومضيعة للوقت، تماما مثل ذلك الذي يزور بلاده مرة كل عام ويقضي وقته في منزل ذويه وفي منطقته ولا يخطط لسياحة موفقة حتى في بلاده.
لطالما ناشدت محبي السفر بتجربة السياحة الداخلية، ولكني شعرت أمس أن انشغالات العمل كادت تجرفني إلى ضفة أخرى بعيدة عن شغفي بالسياحة والمعرفة، ولحسن الحظ أنها جرفتني إلى الضفة الجنوبية من النهر لأستدرك الأمر وأعود لصوابي وأرفع راية السياحة الداخلية... صدقوني إنها تشفي.