تغير الأشياء بفعل الزمن

انقسمت معظم المجتمعات البشرية إلى شطرين: الريف والمدينة أو البدو والحضر. وهي ظاهرة تركت آثارها على معظم ما تفتقت به الأذهان من أدب وشعر وفن وحضارة، بل ولعبت دورها في سبك المسيرة التاريخية في سائر جوانبها. أدبنا العربي مليء بالحكايات والطرائف والأمثال المرتبطة بشخصية «الأعرابي»، الذي يفد إلى المدينة ويعود من المدينة. استمر هذا المنحى عبر الأجيال فتحول إلى تراث فولكلوري غني في تنوعه وظرفه. مقالب «الصعيدي» التي طالما سمعنا بها وقرأناها في الصحافة المصرية. لها ما يماثلها في معظم البلدان العربية. يقابلها في العراق شخصية المعيدي، ولما كنا نحن أبناء الحاضرة، نسجل هذا التراث ونروي عنه، فقد عكس ما رويناه شخصيتنا وميولنا وتحاملنا على ابن القرية.
من الأمثال الواردة في هذا الصدد قول القائل «كبرت وخرفت». يشير القول إلى المادة المألوفة في اصطحاب الهدايا من الريف، أو من المدينة عندما يكون أحد منا عائداً منها إلى قريته. على هذا الغرار، تقول الحكاية إن أعرابياً ذهب إلى مدينة بغداد. وبعد أن أنجز مهمته واستعد للرجوع اشترى شيئاً من المشمش هدية لذويه. وعندما أكلوا شيئاً منه أعجبهم طعمه ونكهته. وظلوا يتحدثون عنه أشهر حتى عنَّ لواحد منهم أن يقصد بغداد في مهمة أخرى. خطر له أن يفعل مثل ما فعله صاحبه. فسأله عن المكان الذي يجد فيه تلك الفاكهة فوصفه له وحدد مكانه في السوق. وهو ما كان. ولكن لم يخطر في بالهما توالي المواسم وتنوع حاصلاتها. وعندما وصل الأعرابي رقم 2 إلى السوق المحدد كان الموسم موسم النارنج وليس موسم المشمش، فاشترى منه وحمل إلى أصحابه. وعندما هموا بأكل الحاصل ورموا بقشوره راعتهم منه حموضته ومرارته وحدته، فقال الأعرابي: «كبرت وخرفت» وأرسلها مثلاً.
ربما سمع القارئ بالحكاية بصورة أخرى. فأنا شخصياً سمعتها بأكثر من صورة. ولكنها كلها تشير إلى هذه الظاهرة، وهي تغير الأشياء بفعل الزمن والمكان.
لما كانت الزراعة حرفة أكثر سكان العالم العربي فقد نشأ عنها تراث ضخم من الأمثال والأعراف والحكميات التي تشير لتلك الظاهرة، وهي توالي الحاصلات بتوالي المواسم. يقولون في سوريا «بين التب والتين أربعين» (أي لا بد من أربعين يوماً لثمرة التين كي تنضج). ويقولون: «لما ييجي التوت يقول للخس موت». وأيضاً الورد وحزيران المشمش. وكذلك يقولون: «آب طباخ الأعشاب وأيار ينزل الخيار».
وفي العراق تسمعهم يرددون «آب مقلل الأعناب، مكثر الأرطاب وفاتح من الشتا باب». ويقولون أيضاً: «نص السنة تسعة أشهر والنص الآخر ثلاثة»، يقصدون بذلك أن السنة عند الفلاح مقسمة إلى مرحلتين، مرحلة الخير من سبتمبر (أيلول) إلى مايو (أيار)، ومرحلة العسر وهي يونيو (حزيران) ويوليو (تموز) وأغسطس (آب). وهي موسم الحر والجفاف.