حتى أنتَ يا شَجَر

في الغابة التي تسودها أشجار الزان العملاق والغَرَب الوارف، والمتزاحمة إلى درجة لا تسمح فيها هاماتها المتلاصقة بنفاذ ضوء الشمس إلى ما تحتها، يهيمن الظل الكثيف والأجواء الرطبة المعتمة على قلب الغابة، ما لا يسمح بأي نمو إلا للنباتات المتسلقة التي تتطفل على الجذوع الجبارة للشجر المتطاول، فقط في الفُرَج الضنينة والنادرة التي تسمح بها ثغرات ما بين تجمعات هامات الشجر العالي بنفاذ ضوء الشمس، يغزر العشب الذي لا ينمو إلا في رعاية شمس غامرة، فهو يحب الشمس إلى درجة استعذاب الموت جفافاً بين أحضان شعاعاتها اللاهبة.
وكما لو كان العشب يضمر ثأراً قديماً من الأشجار التي طردته من أرضه الأولى، ما أن يشب حريق في الغابة، حتى يؤججه هذا العشب، ويبدو بينما النار تجري في هشيمه كأنه مجنون يرقص مبتهجاً بين ألسنة اللهب، يتوهج وسط الشرارات المتناثرة المُطقطِقة، ويقذف بكراته الحارقة في اتجاه مزيد من الأشجار في مرمى غليله، فيتوالى تهاوي الشجر العالي، مشتعلاً بزمجرة كأنها تأوهات ألم وحسرات ندامة، وصرير أسنان يتوعَّد.
يأتي الحريق على الغابة كلها فلا يبقى في آمادها تحت الشمس إلا الأرض المغطاة بسواد الرماد، لكن هذا لا يمثل إلا السطح الخادع للأرض، ففي قلبها الذي يظل حياً تثوي نيات وتأهبات ووعود، في البداية يسفر العشب عن فرحه بضوء الشمس الذي يروق له النمو في كنفه الغامر، فيغزر اخضراره ويشب حتى تختفي أرض السواد تماماً، وخلال مساحات العشب المشمس تتنامى شجيرات الكرز البري الذي يتشارك مع العشب في عشق الضوء والدفء، عندئذ تضحك في سرها المكنون بذور أشجار البلوط التي مكثت سنين في بطن الأرض تنتظر ظلاً لا تنمو إلا تحت جناحه، وها هو الظل تمنحه رقصات العشب النامي وسكينة أغصان الكرز البري، ولكن، سرعان ما تعلوهما بهاماتها الوارفة أشجار البلوط، تحرمهما من شمس حبهما المتقد وترمي عليهما بظلها البارد الكثيف الواسع، يستسلما للذبول والموات والاختفاء إلا عند الأطراف، لكن هيهات أن تهنأ أشجار البلوط راسخة الجذوع وارفة الغصون باحتكار ضوء الشمس كله على سطوح مظلات هاماتها العالية.
في الظل الكثيف الأعمق لأشجار البلوط التياهة بانتصارها على العشب والكرز البري، تنطوي الأرض على بذور أخرى تُضمِر صبراً أطول وثأراً أكبر، فعندما شب الحريق في الغابة، وأدركت أشجار الغَرَب والزان المهيمنة أنها في مهب التلاشي، سارعت بجعل ثمارها التي أمسكت بتلابيبها النيران تنفجر قبل أن يُكتمَل احتراقها، فتنثرت بأقصى العزم جل بذورها عبر الدخان واللهيب، لتنتشر، وتلوذ بأعطاف الأرض، تنجو سائخة تحت الرماد في طراوة تربة الظلال الكثيفة والرطوبة التي خلفها الأسلاف العماليق قبل احتراقهم، وكما فاجأت بادرات البلوط خفة العشب والكرز البري بصعودها في ظلالهما، تفاجئ بادرات شجر الزان والغَرَب أشجار البلوط بصعودها المتسارع والمتجاوز، فتعلوها ناشرة مظلاتها لتحجب عنها الشمس، فتذبل وتجف، وتعود الغابة إلى سطوة أشجار الزان والغرب شاهقة الصعود، ولكن، تأتي القاصمة مما يكرر تناسيه عماليق الشجر!
يسمونه «الاحتراق الذاتي»، لكنه ليس ذاتياً تماماً، بل تدبير جماعي لعناصر الشمس والريح وعمى الغرور في ذؤابات الشجر المتعملق المستبد بالغابة، ففي أيام الصيف الاستثنائية التي تأتي لاهبة، تتفق الريح اللعوب مع الشمس الناقمة على محتكريها، وتعصف أهواء متقدة تضرب أغصان الزان والغَرَب العالية بعضها ببعض في جنون، ومن تلاطم هذا الجنون تطير شرارات تشعل من الورق الأخضر ناراً، ويُغذِّي خشب الزان والغَرَب المُشتعل حريق الغابة التي ظنا أنهما سيحتكرانها إلى الأبد.