الكتابة بين أمومة الجذور وأنوثة المنافي

قد لا تكون الطفولة في شقها الزمني هي الأطول بين مراحل العمر، وقد لا تكون الأوسع في حيزها المكاني، إلا أنها بالقطع الخزان الأكثر غنى بالذكريات، والزمن الأكثر اتصالاً بأسباب السعادة، والرياح التي لا تكف عن رفد الكتابة والفن بكل ما يلزمهما من أسباب النماء والتفتح الدائمين. ففي ذلك العالم السحري الذي يرفع فيه الواقع الكلفة مع الأحلام يبدو كل شيء طازجاً ومثيراً ومفعماً بدهشة المغامرة والاكتشاف. وهناك أيضاً تتحلق حول الينابيع الطرية للنقاء كائناتٌ من مختلف الهويات والمشارب والأشكال، وتسود علاقة من الألفة الحميمة بين الحيوان والنبات والإنسان، قبل أن ينجح هذا الأخير في تسميم المياه المشتركة للإخاء الأرضي، وحرْف وجهة العذوبة عن سياقها. والطفولة الريفية بوجه خاص هي التي تمنح الكتابة والفن مسرحهما الأكثر اتساعاً والأكثر احتشاداً بالمرئيات، وهي التي توفر للمخيلات كل ما تحتاجه من لوازم التحليق واصطياد المجازات، واكتناه أسرار الطبيعة ومفاتن الوجود. ومع ذلك فإن الطفولة لحظة وجودنا فيها لا تمنحنا الشعور بالنشوة والابتهاج، بل تبدو بتفاصيلها ومشقاتها وهمومها الصغيرة أقرب إلى الشقاء منها إلى السعادة، وإلى خيبة الأمل منها إلى الرضا والاكتفاء. كما لو أن الانفصال عن مسرح البدايات هو الشرط اللازم لاستعادته باللغة ولحمْل النوستالجيا على تنقيته من الشوائب.
على أن النوازع الإنسانية لا تسير باتجاه واحد، بل تبدو مشاعرنا وآذاننا متناهبة دائماً بين صفيري قطارين متعاكسين، يشدنا أحدهما إلى الوراء، حيث المكان الأول آهل بالحليب الأمومي ولغة البداهة ودفء الركون إلى البيت، فيما يدفعنا الثاني إلى ارتياد الآفاق وتنكّب المغامرة وتتبع الريح في هبوبها. وإذا كان شوبنهاور قد عرف الحياة بأنها وجود بين عدمين فإنها من جهة أخرى وجود متأرجح كرقاص الساعة بين الإقامة في كنف الدفء الأصلي للأرض الأم، والإنصات الدائم لما يتسرب من وراء الأفق من أضغاث الصبابات ونداءات المجهول الأنثوي، الذي يجد في أساطير عرائس البحر وحورياته، معينه وظهيره المثقل بالرموز. كأن السفر في لاوعينا يتشكل من رغبتنا في مطاردة «الأنوثة الأبدية التي تجرّنا وراءها»، على ما يقول غوته. والنساء اللاتي نصادفهن في السفر هنّ نساء غير ممتلَكات، وفي حالة هروب دائم شبيهة بأولئك اللاتي نقابلهن في الأحلام ثم يتوارين إلى غير رجعة.
وإذا كان كل من الرجل والمرأة يتناوب بشكل دوري على فكرة المطارَد والمطارِد، فإن صورة المرأة الثابتة والرجل الصياد والمرتحل قد ترسخت في الأذهان منذ العصور القديمة، ثم انتقلت بعد ذلك إلى النصوص. على أن ضمير المتكلم (أنا)، دائم الحضور لا يتكون، وفق رولان بارت، إلا مقابل ضمير المخاطب (أنت)، دائم الغياب. وقد بدت المرأة المعشوقة عند صاحب «شذرات من خطاب العشق»، كما الكتابة نفسها، نوعاً من التعويض عن حضور الأم التي غيبها الموت. وهو عين ما عبّر عنه بقوله: «هاأنذا أتصرف تصرّف من أجاد الفطام، وأعرف كيف أقتات تحت وطأة الانتظار، بأشياء أخرى غير ثدي الأم».
ومع ذلك، فإن الشعور الذي يمنحه السفر بالانفصال يوازيه شعور مضاد بالعودة إلى نقطة الانطلاق. وهو ما ينسحب تماماً على لغة الأدب، حيث على الدوال لكي تكتسب صفة الإبداع أن تغادر مدلولاتها الأصلية لكي تقيم في منافيها البديلة ولو إلى حين، قبل أن تعود إلى بطون أمهاتها في معاجم اللغة. فاللغة بشكل أو بآخر لا تولد إلا في الغياب، أو لعلها حطب جاف لا يشتعل إلا بالفقدان.
والأدب، عربياً كان أمْ عالمياً، مليء بالإشارات المتناقضة التي تمجد الإقامة تارةً، والترحال تارة أخرى. ففي حين يعبر الشريف الرضي عن حنينه إلى الأماكن الأولى بتلفّت القلب إلى الوراء، يحفل تراث بلاد الشام الشعبي بتلفّت التائهين في صحارى العالم ومنافيه نحو طفولاتهم المتنائية، عبر الحداء المعروف «يا حادي العيس سلّم لي على أمي/ واحكي لها ما جرى واشكي لها همي». ومع أن الحداء لا يكشف عما جرى ويبقيه في حالة الغموض التام، فإن في طيات النداء ما يشي بأهوال الطريق ومكابداتها، وما يحول الأم إلى رمز للدفء والطمأنينة المفقودين. والحنين إلى الحدب الأمومي المفقود يتجسد أيضاً في روميات أبي فراس الحمداني الذي يرقّقه الأسر إلى حدود التأنث فيهتف بأمه البعيدة «يا أمّتا هذي منازلنا/ نتركها تارةً وننزلها».
أما أبو الطيب المتنبي فيبدو من جهته ممزقاً بين استمراء الرحيل المحفز على الإبداع «على قلق كأن الريح تحتي/ أحركها يميناً أو شمالا»، وجنوحه المضاد إلى التآلف مع الأشياء الأزمنة والكائنات «خلقتُ ألوفاً لو رجعت إلى الصبا/ لفارقت شيبي موجع القلب باكيا»، أو حنينه إلى الأماكن «لكِ يا منازل في القلوب منازلُ». وهاتان النزعتان المتعاكستان نرى تمثلاتهما جلية عند أبي تمام، الذي يدعو إلى الاغتراب من أجل تجديد الحياة وجلو الصدأ عن اللغة «وطول مقام المرء في الحي مخْلقٌ/ لديباجتيه، فاغتربْ تتجددِ». وحين يغلبه الحنين إلى الحضن الأمومي يهتف قائلاً: «نقّل فؤادك ما استطعت من الهوى/ ما الحب إلا للحبيب الأول».
كما عبر الشعر المهجري في مطالع القرن الماضي عن قسوة الصراع المر بين شغف الشعراء المشرقيين بالمغامرة، وتوقهم المضاد للعودة إلى المهد. حتى إذا شاهد الشاعر اللبناني رشيد أيوب هطول الثلج في الأصقاع الأميركية، تذكّر ثلوج صنين ومواقد الألفة الهانئة في شتاءات بسكنتا. وتذكر أمه المنتظرة عودته منذ أمد بعيد، فهتف قائلاً: «يا ثلج قد ذكّرتني أمي/ مشغوفةً تحار في ضمّي/ تحنو علي مخافة البردِ». ولعل البرد الملازم للغربة هو أشد وطأة من ذلك الذي قصده الشاعر، لأنه يثلم الروح ويصيبها في الأعماق.
في عمله الشعري المدهش «ملحمة بيروت الميمونة» يصف ننوس اليوناني الصراع على بيروت في العصور القديمة بأنه صراع بين إله البر «باخوس» وإله البحر «بوسيدون»، حيث تتعارك الأمواج مع الصخور، وأزهار الزيتون مع زبد البحر. وهو التمثيل الأبلغ للاشتباك بين وجهي المدينة المتصل أحدهما بصلابة الجبال، فيما الآخر تواق إلى الانعتاق والرحيل الأبدي. الروايات العربية المعاصرة تصدت من جهتها للعلاقة بين المكان والمنفى، قسرياً كان أم طوعياً، وتعقبت سعي الأنا المغلوبة على أمرها، للانتقام من الآخر الغربي عبر تأنيثه الواقعي أو الرمزي، مقابل ذكورية الشرق وفحولة أبنائه الطاغية. ولعل أفضل من تصدى على المستوى الفكري لهذه الفرضية المزعومة هو الكاتب والمفكر الراحل جورج طرابيشي في كتابه الشيق «شرق وغرب/ ذكورة وأنوثة».
وقد بدت ثنائية «الشرق - الذكر» و«الغرب - الأنثى» واضحة تماماً في رواية «الحي اللاتيني» لسهيل إدريس، حيث البطل هو نفسه الراوي القادم من بيروت منقاداً وراء هواماته الجنسية المتخيلة، التي لا توارب الرواية في الكشف عنها «أنت تبحث عن المرأة. تلك هي الحقيقة التي تنساها، بل تتجاهلها، وقد أتيت من أجلها إلى باريس». على أن علاقة الطالب البيروتي بجارته الفرنسية جانين مونترو ما لبثت رغم ضراوتها أن آلت إلى فشل محقق، بسبب اختلاف التقاليد ونظام القيم واتساع الفوارق الحضارية بين الطرفين. والأمر نفسه يتكرر مع مصطفى سعيد، بطل الطيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال» الذي يردّ على الظفَر الحضاري الغربي باستعراض فحولي ما يلبث أن يبطل سحره بعد حين، ليعود البطل في نهاية المطاف إلى بيت الطاعة الأصلي.
وفيما كان كلّ من إدريس وصالح يؤكدان مقولة كيبلينغ إن «الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا أبداً»، كان توفيق الحكيم، رغم فشل العلاقة بين بطله الشرقي محسن وبطلته الفرنسية سوزي، يدعو في روايته «عصفور من الشرق» إلى علاقة تكاملية بين روحانية الشرق ومادية الغرب، في محاولة شبه يائسة للمصالحة بين أمومة الجذور وأنوثة المنافي.