إميل أمين
كاتب مصري
TT

الحزم والموضوعية في رد السعودية

منذ أن التقى الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، رحمه الله، الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في البحيرات المرة المصرية على متن الطراد الأميركي الشهير «يو إس إس كوينسي»، انطلقت العلاقات السعودية - الأميركية في آفاق رحبة على الأصعدة كافة، وجرى توافق حول الكثير من المواقف الإقليمية والدولية، وإن لم يعن ذلك بالضرورة أن يحدث تطابق كامل، فالمملكة دولة كانت وستظل إلى الأبد سيدة قرارها في الحال والاستقبال، بمعنى أنها لا تدور في أطر أحلاف بعينها ولا تبعية لدولة بذاتها مهما عظم شأنها أو ترامت أطرافها الإمبراطورية.
كانت الولايات المتحدة خارجة منتصرة للتو من الحرب العالمية الثانية وفي طريقها لأن ترث الإمبراطورية البريطانية، وعرف العالم أن زمن تسليم الرايات قد حان وأن واشنطن قد أضحت روما العصر مالئة الدنيا وشاغلة الناس.
منذ ذلك الوقت المبكر كانت رؤية أميركا للمملكة العربية السعودية، ولا تزال، هي أن صداقة السعودية تعني وتضمن «صداقة أكثر من مليار ونصف المليار مسلم حول العالم، ونياتهم الحسنة»، وفي الوقت نفسه تحمي «أثمن جوهرة» في الشرق الأوسط، أي المملكة برصيدها النفطي العملاق.
عرفت العلاقات السعودية - الأميركية توترات وتجاذبات في كثير من الأوقات، سيما بسبب دعم واشنطن لإسرائيل الظالمة دوماً وغير المظلومة أبداً، وكانت حرب العام 1967 سبباً رئيسياً في توتر تلك العلاقات، وبلغ الموقف العروبي للمملكة العربية السعودية حده الأقصى إبان حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 التي نحتفل بها هذه الأيام، بقرار الملك فيصل، رحمه الله، بوقف تصدير النفط وتقليل الإنتاج. وعلى رغم ذلك، فإن قادة البلدين استطاعوا أن يضبطوا مسافات الخلافات بحيث لا تؤثر سلباً في سبل التعاون المشترك، وكي لا تعوق عمليات التعاون على الصعيد الدولي.
ليس سراً أن السبب وراء هذه السطور التي نستدعيها من دفاتر الزمن الغابر التصريحات المثيرة للجدل التي أدلى بها الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأيام الماضية في شأن المملكة العربية السعودية، ما يستحق وقفة بهدوء وتؤدة شديدين، والتفكير بعقل بارد سيما أن الرؤوس الساخنة لا يمكنها الوصول إلى رؤية صائبة.
نحن بداية أمام رئيس يوصف بأنه غير متوقع، بمعنى أن أحداً غير قادر على التنبؤ بما سيقوله أو يفعله رجل العقارات القادم من عالم الصفقات المالية إلى موقع الرئيس الأميركي في البيت الأبيض، ذاك الذي جلس عليه سعيداً ذات يوم رجالات بوزن وقدر توماس جيفرسون، وإبراهام لنكولن، وصولاً إلى دوايت آيزنهاور وجون كيندي، مع الفارق الشاسع بين الماضي ومجده التليد والحاضر المأزوم، وهذه قصة أخرى.
ولعل الأنباء التي تواترت من واشطن عطفاً على الكتب التي صدرت حديثاً وآخرها كتاب «الخوف» لكاتبه البارز في مجتمع النخبة الفكرية الأميركية بوب ودوارد، جميعها تبين لنا أن أفراد إدارة الرئيس ترمب يواجهون مآزق مصيرية في التعامل مع تصريحات الرئيس وتعبيراته غير المحكمة.
مهما يكن من أمر، كان لا بد من رد جامع مانع في مواجهة التصريحات غير الحقيقية التي تتعلق بالمملكة العربية السعودية، وإن بطريقة عقلانية وليست عاطفية بحيث تصل إلى عقل رجل الشارع الأميركي الذي يبقى العامل الحاسم والمهم في حسابات أميركا كدولة مؤسسات، والفرد ومواطنته في القلب منها.
في صدر حوار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان نجد حضوراً واعياً يجمع بين الحزم والحسم، ويحافظ على الروابط المتينة للعلاقات السعودية - الأميركية، لكنه لا يتخلى عن حقه في الرد.
كان الرد الموضوعي السعودي السريع ضرورياً، لسبب واضح هو أن إشكالية رسم الصورة في الولايات المتحدة تعد مسألة جوهرية، ذلك إنك إن لم تبادر إلى رسم صورتك كما تريد، فإن هناك من يرسمها لك كما لا تريد، وبما يوافق أهواءه، سيما في ظل النهضة التي تشهدها المملكة في حاضرات أيامنا على صعيد الحجر والبشر، والتي قد لا يرضى عنها الكثيرون من أصحاب الأحقاد الدفينة.
الأمير محمد يجاوب الرئيس ترمب بالحجة ويقرعه بأحداث التاريخ القريب وزمن أوباما لم يبعد عنا أكثر من عامين، وقد فعل الرجل ما لم يفعله رئيس أميركي منذ ليندون جونسون ذاك الذي حمل شراً مجانياً للعرب في حرب الأيام الستة، فقد عمل أوباما جاهداً على تفكيك العالم العربي وتفتيته، ومضت رياحه المسمومة في اتجاه معاكس لشراع المملكة طوال ثماني سنوات، وبقيت المملكة كالطود الثابت وذهب أوباما.
أجاد ولي العهد في تذكير ترمب بأن أوباما ومن لف لفه من جماعات الخيانة في الداخل العربي، قد استماتوا في العمل على زعزعة استقرار مصر، فكان الرد عبر ملايين المصريين الذين خرجوا إلى الشوارع في 30 يونيو (حزيران) 2013 مطالبين بسقوط حكم المرشد، ومن يسر له الطريق، في إشارة لا تخطئها العين لإدارة أوباما، وبقيت الكنانة مصونة ومحفوظة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لوجيستياً وعسكرياً الأرض تقاتل مع أصحابها، وأهل المملكة هم حماتها الحقيقيون، وهم مفاتيح الأمن والأمان لها، هم من يفتديها بالغالي والنفيس، وهم من يقدمون أرواحهم ودماءهم ذوداً عن مقدساتها.
ولا ينسى الأمير محمد أن يذكر بأن مليارات الدولارات التي يتم شراء أسلحة بها إنما تساعد الاقتصاد الأميركي على خلق فرص عمل جديدة، وتحقيق منافع للمواطن الأميركي العادي، ما يعني أن ما تقدمه واشنطن للرياض ليس فضلاً أو منة بل بيع وشراء في سياق منظومات دولية متعارف عليها.
القارئ لحوار «بلومبرغ» يوقن بأن الأمير محمد بن سلمان دارس جيد للنفس الإنسانية، ولعلم النفس، ولهذا يترك هامش الواحد في المائة للاختلاف أو حتى للإشارات السيئة التي يمكن أن تحدث أحياناً داخل العائلة الواحدة، وأنه لا يمكن أن تكون هذه النسبة الهامشية سبباً رئيسياً في هدم منظومة من التعاون بنسبة 99%، وفي هذا انتصار على الذات، وعفو عند المقدرة على الرد بما هو مستصعب من الكلم.
من يخبر السيد ترمب من مستشاريه وعقوله المفكرة أن العالم لم يعد أميركياً بامتياز، وأن التفرد الأميركي بالعالم قد ذهب من دون رجعة، حتى طرح الأول بين متساويين لم يعد قائماً، وها هي روسيا والصين تختصمان كثيراً من النفوذ الأميركي خليجياً وشرق أوسطياً، أفريقياً وآسيوياً، والعالم على موعد مع نظام متعدد الأقطاب حان وقت ولادته عما قريب.