التعرف على درب القهوة حول العالم

يتفّق المؤرخون على أن راعياً كان يراقب قطيع ماعزه في إحدى هضاب إثيوبيا مطالع القرن التاسع، عندما لاحظ يوماً بعد يوم أن عنز قطيعه كانوا يقفزون بنشاط غير معهود ويتسلّقون الجرود الوعرة بسرعة غير مألوفة كلّما أكلوا من ثمار شجيرات خضرٍ تكثر في تلك المنطقة، فبادر هو إلى تذّوقها وراح يشعر بحيوية زائدة وطاقة قويّة لم يعهدها من قبل. تلك كانت بداية اكتشاف الإنسان للنبتة التي يُستخرج منها اليوم المشروب الأكثر رواجاً في العالم، والذي يستهلّ به مئات الملايين نشاطهم كل صباح، ويستحيل أن نتصوّر حياتنا من دونه.
من إثيوبيا عبَر البنُّ البحر الأحمر إلى شبه الجزيرة العربية، حيث يُعتقد أنه حُمِّص للمرة الأولى أواسط القرن الحادي عشر. وفي القرن الثالث عشر صار يُستخدم لإعداد القهوة التي شاعت بين المسلمين وصارت ترافقهم في ترحالهم وفتوحاتهم حتى وصلت إلى شمال أفريقيا وحوض المتوسط، ثم الهند وأوروبا التي دخلتها على يد تاجر من البندقية في عام 1615.
وتفيد مدّونات الرحّالة الأوروبيين، أن نبتة البنّ وشراب القهوة وصلا، بفضل القراصنة واللصوص، أواسط القرن السابع عشر إلى أميركا اللاتينية، حيث تُزرع اليوم بعض أجود البنّ التي تشكّل عماد اقتصاد الكثير من الدول.
ويُحكى أن الملك الفرنسي لويس الرابع عشر شرب قهوته الأولى عام 1714 بعد أن أهداه ملك إسبانيا غرسة بن لحديقة النبات في باريس، وأنه كان يُنفق ما يعادل 15 ألف دولار سنويّاً على القهوة التي كانت تدمن بناته عليها. ومن الشخصيات التاريخية التي يُعرف عنها إقبالها علـى القهوة، الموسيقار الألماني بيتهوفن الذي كان يحرص على استخدام 60 حبّة بن لتحضير كل فنجان، علماً بأن المعدّل هو 40 حبّة. ويُنقَل عن السياسي الفرنسي الشهير تاليران قوله في القهوة «سوداء كالشيطان، حارّة كالجحيم، نقيّة كملاك وعذبة كالحب».
ويقال إن بعض المذاهب المسيحية كانت تعتبر أن القهوة هي شراب شيطاني، فلمّا سمع بذلك البابا فينسنت الثالث طلب تذوّقها فأعجب بطعمها وانتعش لمفعولها، فباركها وقال «حرامٌ أن يُترَك طعمها اللذيذ متعة فقط للكفّار». وفي عام 1785 قامت ثورة في بروسيا عندما أعلنت الحكومة أن القهوة ستكون مقصورة على النبلاء والإكليروس وكبار الضباط.
أما قهوة الإسبريسّو الذائعة الصيت اليوم، فقد أبصرت النور في مدينة تورينو الإيطالية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي تحتوي على ثلث مادة الكافيين التي تحويها القهوة العادية. وتبقى الولايات المتحدة المستورد والمستهلك الأول في العالم للبنّ، لكن البلدان الاسكندينافية هي التي تحتل المراكز الأولى من حيث استهلاك الفرد، تتقدمها فنلندا بمقدار 9.5 كلغ سنوياً.
كثيرة هي الطقوس والطرق لإعداد القهوة وتقديمها وتناولها، من شبه الجزيرة العربية حيث للقهوة لغتها ومغازيها، إلى القهوة الأميركية التي تشبه كل شيء ما عدا القهوة، مروراً بالقهوة الإيطالية التي لها قاموس لا ينتهي من الأسماء والمعايير والمذاقات. لكن البلد الذي شهد البنّ فيه النور، وحيث تُعرف القهوة بكلمة Bunna باللغة الأمهرية، فإن له طقوساً حاضرة كل يوم مرات عدة في بيوت الإثيوبيين.
تُغسَل حبّات البنّ الأخضر، ثم تُحمَّص ببطء على جمْرٍ يحترق فيه البخّور والصندل، فتفوح رائحة ذكية تعطّر المكان وتطرد الحشرات. يُدَقُّ البنّ بعد تحميصه في جرن خشبي ثم يُضاف إلى ماء يغلي في جرّة صغيرة أو إبريق من فخّار تمهيداً لتقديمه. يدور أولاً على الضيوف، إذا وُجدوا، ثم على الرجال البالغين فالنساء. وتُقدَّم القهوة عادة ثلاث مرات.