من لم يعِش اللحظة!

«التعلم… ذلك الذي لا يتعب منه الدماغ!».
أفكر دائماً في عبارة دافنشي السابقة، في أي مرحلة من مراحل إبداعه وجماله كتبها.. أقبل النضج الفني أم بعده؟!
وإذا كانت غاية التعلم العمل والإنجاز، فلأريستوتل - فيلسوف اليونان - إضافة مهمة مكانها هنا، ولو أنها كانت قبل ميلاد السيد المسيح بـ322 عاماً، عندما شرح الإنسان بقوله: «نحن ما نفعله باعتياد، فالإتقان ليس فعلاً، إنه عادة تكررها، حتى تصبح طبيعة».
وإن أردت أن أشارك بعض الأفكار التي جمعتها علني أطبقها، غالباً ما أكون مثل طبيب يداوي الناس وهو عليل!
هنا أجدني منساقاً لأوصي نفسي وغيري، باستغلال يومك، لا تستهن بهذه النصيحة التي لا تتجاوز الكلمتين، فليس أصعب من إدارة اللحظة المقبلة، دعك من الغد ومن عشرات السنين المقبلة. إن استطعت أن تحسن في يومك، فالعمر كله أيام، يستطيع مثلك الإحسان والإبداع في كل يوم منها.
ولا عجب إذ تعود كل تقاسيم الزمن إلى اللحظة التي تهرب من بين يديك الآن.
من العظيم أن تكون لك رؤية طويلة المدى مع استعداد دائم للمفاجآت، لكن ثق بمن فعل ذلك، ثم وجد الأصعب فن إدارة اليوم، فمن لا يحسن إدارة اليوم، لن يحسن إدارة المقبل من الأيام.
الذين يعتادون التعامل مع اليوم الواحد، ومن ثم يتقنون ذلك، ينتقلون للتكرار، هم من نسميهم أهل الدراية والإتقان، والتفت حيث شئت، فلن تجد ثمة ناجحاً بلا اعتياد، ولذلك قال العرب قديماً: «العادة مستحكمة».
وعلى ذكر الاستعداد لمفاجآت الطريق، تذكر دائماً مقولة توماس جيفرسون حين يوجز وهو سيدٌ في ذلك فيقول: «بخصوص الأسلوب اسبح مع الواقع، بخصوص المبادئ قف كصخرة».
وإن كنت تستثقل المغامرة حتى بتجربة الإمساك بعنان يوم واحد، فلا تغضب، فصاحبنا الفيلسوف اليوناني أريستوتل، مر عليه رجال ونساء مثلك، مدحهم بذم جميل، إذ يقول إن «الطريقة الوحيدة لتجنب النقد والذم والانتقاد، هي ألا تفعل شيئاً، وألا تكون شيئاً، ناهيك بأن تقول شيئاً»، وهو صادق في ذلك، إذ يجرف النهر تلك الأحجار الصغيرة، التي لم تقرر طريقها سلفاً قبل أن يصل الطوفان إلى القرية.
غير أن الأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن، يبدو له موقف مخالف لضيفنا اليوناني اليوم، فيبدو أن الأمير قد ثقلت الشهرة عليه، وهو غاية في اللطف والتواضع بشهادة كل من عرفه، فقرر الانتصار لهؤلاء المنسيين، أولئك الرجال العاديين، الذين يرسمهم البدر - وكل شعره رسم - بقوله:
يا حظ من لا عرف من هو ولا شيف
إن طاب يحمد وإن تردى بكيفه
وليست المرة الأولى التي ينحاز فيها البدر للرجال العاديين، فقد سألته قبل أعوام عن الإمارة والشعر، أيهما الأقرب لقلبه؟! فقال: «إن الإمارة، ورثها أباً عن جد، فلا هو سائل أحد شيئاً بخصوصها، أما الشعر، فهو زاد الجميع وطوق يطوقك به الناس، فأنا أطلب شهادة الشعر من كل قارئ ومن كل متذوق».
عندما تبحث عن الحِكَم - وأنا مفتون بتجميعها على أي حال، تجد مدى تشابهها بين القائلين، ويصعب أحياناً أن أنسب جملة مثل: «الطريقة الوحيدة للوصول إلى المستحيل، هي الإيمان بأنها ممكنة» لتشارلز كنغسلاي، فما من حضارة بشرية إلا وتجد لشعرائها وساستها وكتّابها دعوة بشكل مباشر أو بغير مباشر، لتجنب التفكير بالمستحيل وتجاهله، كي يحل الممكن محل المستحيل.
ولو لم أكتب قبل أيام عن عظمة الخيال، لكررت فكرتي التي لا أملّ من تكرارها، دعك من الماضي تماماً، وركز في اللحظة، نعم فاللحظة وحدها، أقدر الكائنات على التخفي والهروب، أما المستقبل، فأرجوك لا تختَر له مركباً غير التفاؤل، لا تكن سلبياً يرى الغد بعين الخائف، فلو نفع الخوف من المستقبل، لما بقي من لا يخافه.
تخيل خطورة أن ترى السراب مكان الطريق الحقيقية، ثم من فرط تصديقك السراب، حين وقفت الطريق أمامك، داخلك الشك، واستمر بك الخوف، فاخترت طريقاً أخرى، رغم أن كل شيء يدل على أنك في الاتجاه الصحيح، لقد تعاملت في عالم الأفكار مع غائب كان بإمكانك إعطاؤه الثقة، بالخوف والقلق، وحين صدقت الأخيرين، تنكرت لك الطريق!
كيف كان يقول العربي الأول:
ما مضى فات والمؤمل غيب
ولك الساعة التي أنت فيها
وعن اللحظة والاعتياد وكل ذلك، يختصرني روبرت لويس ستيفنسون بجملته الشهيرة: «لا تقيم كل نهار بما حصدت، بل بالبذور التي غرستها».
جميل أن نعتاد الزرع، كي يكون الحصاد الجميل انتظاراً دائماً لنا وللمقبلين من أهلنا!