إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

أيُّ يمين و أيُّ يسار؟ محاولة تعريف!

قد تكون من أطرف المفارقات السياسية التي عرفتها في حياتي العلاقة «الغريبة» بين الولايات المتحدة والشيوعية. فالقوة العظمى التي رفعت لواء الرأسمالية ومكافحة الشيوعية، وكانت ترفض منح تأشيرة دخول لعضو في تنظيم شيوعي، جاء منها جون ريد، أحد أفضل من أرّخوا اندلاع الثورة البلشفية التي بنت الاتحاد السوفياتي.
طبعاً، مفارقةٌ أن يؤلف ذلك الصحافي اليساري الأميركي، خريج جامعة هارفارد، الكتاب الشهير «عشرة أيام هزّت العالم» عن ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1917، لكن هذه حقيقة...
وفي مفارقة أخرى، قبل سنتين، رسا ترشيح الحزب الجمهوري الأميركي على دونالد ترمب، الملياردير اليميني. هذه المرة بلغ خطاب ترمب السياسي من الشعبوية حد الانقلاب على أسس الفكر الرأسمالي، فجنح إلى شعارات «الحمائية» المناقضة تماماً لمبادئ التنافسية وحرية حركة السلع والخدمات والاستثمارات. ولم يكتفِ ترمب بتبنّي مطالب العمال اليدويين غير المهَرة، سابحاً عكس تيار المكننة والتقنيات «السايبرية» والروبوتية، بل أثار مسألة العودة إلى الصناعات المنجمية - التعدينية التي تواجه الانقراض في أميركا، ومثلها معظم الدول الغربية المتجهة إلى مصادر الطاقة البديلة.
شعارات ترمب في أميركا عام 2016، في ظاهرها على الأقل، جاءت شبيهة جداً بشعارات اليسار الاشتراكي الأوروبي قبل بضعة عقود. ولقد فاز ترمب بالانتخابات الرئاسية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 نتيجة حصوله على غالبية في «المجمع الانتخابي» بفضل نحو 77 ألف صوت فقط كسبها في 3 ولايات صناعية محسوبة للديمقراطيين هي بنسلفانيا وميشيغان وويسكونسن. وكانت هذه الأصوات كافية لمنحه كل أصوات الولايات الثلاث في «المجمع».
غير أن ما حدث في الولايات المتحدة ليس سمة أميركية بحتة، بل شاهدناه ونشاهده في أوروبا، حيث تجابه موجة «العولمة» القائمة على مفاهيم الليبرالية الرأسمالية ردة فعل عدائية انعزالية، تصل في معظم الأحيان إلى حد العنصرية الصريحة.
ثم إن التصدّي للانفتاح وحرية الحركة الناجمين عن «العولمة» ما عاد يقتصر اليوم على قوى اليمين القومي والعنصري التقليدي، بل يشارك فيه بعض جماعات اليسار الكلاسيكي والمتشدد، وبقايا الحركات النقابية «المتكلّسة» المتضرّرة من تطوّر التكنولوجيا الذي قضى، أو كاد يقضي، على الصناعات التقليدية القديمة كالتعدين (المناجم) والصناعات المعدنية واليدوية والنسيجية.
كما نعرف كانت بداية التحوّل في فرنسا، مع تراجع نفوذ الشيوعيين إبان عهد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران، وتنامي المخاوف في بعض أجزاء فرنسا من حجم الجاليات المسلمة والمهاجرة... ثم تسارع مدّ العمالة الرخيصة الوافدة من دول أوروبا الشرقية الشيوعية السابقة، التي غدت جزءاً من الأسرة الأوروبية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي.
وفي ظل هذه المتغيرات، انقلب جزء لا بأس به من فئة العمّال غير المهرة الفرنسيين، على ولائه الطبقي و«الأممي» السابق... فهرب بمرارة فقدانه «الأمان الوظيفي»، سياسياً وانتخابياً، من مواقع اليسار التقليدي أو الكلاسيكي إلى معسكر أقصى اليمين المناوئ للهجرة والمهاجرين.
ما حدث في فرنسا، أخذ يحدث في عدد من الدول الأوروبية الأخرى، ولا سيما تلك التي تعيش فيها جاليات مهاجرة كبيرة كألمانيا، أو التي تعاني من أزمات هوية وتضم حركات انفصالية وشبه انفصالية مثل بريطانيا وإيطاليا وإسبانيا. ألمانيا، في الواقع، دفعت الثمن منذ سقوط «جدار برلين» وتحقيق الوحدة الألمانية، إذ التحقت بها من «ألمانيا الشرقية» الشيوعية السابقة ثقافات راديكالية يمينية ويسارية بعيدة عن المزاج التوافقي المألوف في «ألمانيا الغربية». وها هي قوة اليمين المتطرف تتنامى أكثر بحجة «خطر الهجرة» وهوية المسلمين.
أما في بريطانيا، فإن هشاشة الولاء لفكرة «أوروبا» تضخّمت أكثر فأكثر مع مسألة الهجرة والعمالة الأوروبية، فكان التصويت الصاعق لمصلحة مغادرة الاتحاد الأوروبي، أي «البريكست». واللافت هنا - تماماً، كسقوط «خطوط الفصل» بين متشددي اليمين واليسار في حالتي أميركا وفرنسا - أن اليسار البريطاني العمالي المتشدّد صوّت مع المغادرة جنباً إلى جنب مع انعزاليي اليمين وعنصرييه. وها هي قيادة حزب العمال اليسارية التقليدية ممثَّلة بزعيم الحزب جيريمي كوربن تصرّ على رفض إجراء استفتاء ثانٍ على مسألة المغادرة. ولكن، لعل الحالة الأكثر إثارة تبقى نائب رئيس وزراء إيطاليا ووزير داخليتها ماتيو سالفيني، الذي انتقل «بشحمه ولحمه» من اليسار ليقود إحدى أشد القوى الأوروبية يمينية وعداءً للمهاجرين والأجانب.
كيف يمكن قراءة ما يحدث اليوم - على الأقل في الديمقراطيات الغربية - بالنسبة إلى ما تعارفنا عليه من وجود «يمين» يقابله وجود «يسار»، ووجود ثراء ونمو يقابله حرمان وتخلف؟
قريبٌ عزيزٌ أرسل إليّ، أمس، شريطاً ينطوي على معلومات ودّدتُ عرضها في هذا السياق. ومما جاء في الشريط، الذي يشير إلى أنه استقى أرقامه من تقارير دولية منها تقارير منظمة الأمم المتحدة، أنه قبل 200 سنة كانت الدول الغنية أغنى من الدول الفقيرة فقط بنسبة 3 أضعاف. لكن النسبة تغيّرت عام 1960 لتغدو 35 ضعفاً، وهي اليوم 80 ضعفاً.
في ظل هذا الوضع، تحاول الدول الغنية «التعويض» بتقديم إعانات للدول الفقيرة، تقدّر بـ130 مليار دولار سنوياً. لكن هذه النسبة لا تقاس بـ900 مليار دولار تحصل عليها الدول الغنية سنوياً من الدول الفقيرة، مستفيدةً من الأنظمة والممارسات التجارية التي تعتمدها، مع الإشارة إلى أن الدول الفقيرة تدفع سنوياً 600 مليار دولار سنوياً لخدمة ديونها! كذلك - وفقاً للشريط نفسه - فإنه، في كل سنة يتحوّل ما مجموعه تريليونا دولار من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية!
أما على الصعيد الإنساني، فإن 2 في المائة فقط من سكان العالم يملكون اليوم أكثر من نصف ثرواته، و1 في المائة فقط من السكان لديهم 43 في المائة من الثروات مقابل 80 في المائة ليس لديهم سوى 6 في المائة منها. ولعل الإحصائية الأغرب أن الأشخاص الـ300 الأغنى في العالم راهناً تعادل ثرواتهم ما يملكه 3 مليارات نسمة، أي ما يعادل سكان الصين والهند والولايات المتحدة والبرازيل مجتمعة!
أعتقد أنه في ظل إحصاءات كهذه، يجب أن تسقط فرضيات كثيرة، وتترنّح مبادئ ومثاليات وهواجس أكثر.