من التاريخ: «روبيسبيير» ودماء الأمة

من التاريخ: «روبيسبيير» ودماء الأمة
TT

من التاريخ: «روبيسبيير» ودماء الأمة

من التاريخ: «روبيسبيير» ودماء الأمة

لا يختلف المؤرخون على أن التلميذ النجيب لآراء جان جاك روسو الثورية التي تناولناها في المقال السابق، هو ماكسيمليان روبيسبيير؛ أحد أهم شخصيات الثورة الفرنسية أو لعله يكون الشخصية الأساسية في فترة منها، والذي ذاع صيته ليس فقط لأن شخصيته غريبة بعض الشيء، ولكن لأنه لعب دورا مهمّا للغاية في أكبر عملية إرهاب دولة عرفتها الثورة الفرنسية، ولكنها للأسف لم تكن الأخيرة.. فلم تخل كثير من الثورات من هذا النمط نفسه من العنف تحت مبررات مختلفة، في وقت لم يكن مُبررا فيه كل هذا العنف والقتل والدمار والتشتيت. والملاحظ هنا أن هذا العنف ارتبط دائما بشخصية قوية ادعت أنها على اتصال مباشر بالمجتمع وقادرة على التعبير عنه، إما وحدها، أو أغلب الظن على رأس مجموعة مصغرة تقودها، وروبيسبيير هو التجسيد الحقيقي لهذه الشخصية الثورية.
تجمع أغلبية المصادر التاريخية على أن روبيسبيير ولد لأب محام وأنه فقد والدته في الثامنة من العمر، ولكن وفاتها على ما يبدو كان له أسوأ الأثر في حياته، وأدى لعدم اتزان نفسي واضح في سلوكه فيما بعد لم يكن خافيا على كثير ممن تعاملوا معه. وقد كان روبيسبيير متفوقا في دراسته، فاستطاع أن يحصل على المنح الدراسية لاستكمال تعليمه، وقد تخرج الرجل في كلية الحقوق، وحصل على جوائز لتفوقه في الدراسة على مدار عمره. وواقع الأمر أنه لم يكن ثوريا منذ الصغر، بل إنه جرى اختياره لينشد قصيدة الشعر التي كتبها تمجيدا في ملك فرنسا لويس السادس عشر وهو طالب، ولكن الملك لم يسمعها لأنه أمر موكبه بالإسراع بسبب هطول الأمطار، غير مدرك أن هذا الرجل هو الذي سيقوم بالإطاحة برأس ملك فرنسا بعد ذلك بأقل من 20 عاما!
وتجمع المصادر التاريخية على أنه كان نحيفا للغاية، منمقا، شديد الأناقة، قليل الكلام إلا عند الضرورة، له قدرة رفيعة للغاية على التفاعل مع الجماهير، كما أنه كان مفوها وخطيبا بارعا استطاع أن يصل لقلوب المستمعين، وكان متمكنا من التاريخ، خاصة التاريخ الروماني، ولكن قبلته الفكرية في الأساس كانت نحو جان جاك روسو، الذي اعتنق منه أفكاره الخاصة بالمجتمع ومسؤوليته في إدارة الأخلاقيات والسياسة على حد سواء، كما كان مقتنعا تمام الاقتناع بمفهوم «الإرادة الجمعية» أحد الألغاز الفكرية التي طرحها روسو والتي أسند إليها مسؤولية إدارة المجتمع دون تحديد لشكلها أو هويتها، فكان روبيسبيير يرى أنه يجب على من هو قادر أو مدرك للمجتمع أن يقوده ويتحدث عن البقية، حتى دون أي تفويض من هذا المجتمع، وهكذا رأى روبيسبيير في نفسه هذا الرجل خاصة بعد اندلاع الثورة الفرنسية في عام 1789.
لقد بدأ نجم روبيسبيير يسطع مع بداية الثورة الفرنسية عندما كان برلمانيا منتخبا وهو في الثلاثين من عمره على الرغم من أنه كان من الطبقة الوسطى غير الميسورة ماديا، وسرعان ما بدأ يلمع نجمه بعدما وجه جهوده لصالح الفقراء من عامة الشعب، فكان يدافع عنهم بلا مقابل في المحاكم، كما أنه بدأ يسعى للتقرب منهم من خلال الدفاع عن أساسيات حياتهم، مما دفعه مستقبلا لوضع حد لسعر رغيف الخبز لصالح الفقراء، وقد كان لهذا أثره في زيادة شعبية الرجل، خاصة بعدما بدأ يسعى لتطبيق أفكار روسو ويطالب بتحرير المجتمع من القيود المفروضة عليه. ولتنفيذ ذلك الهدف دخل روبيسبيير في تحالف مع من أطلق عليهم «اليعاقبة» Jacobins، الذين مثلوا رؤية ثورية متشددة بعض الشيء، هدفها الأساسي كان السيطرة على المجتمع داخليا وفرض مفاهيم محددة على المجتمع الثوري بدلا من حالة الفوضى المتفاقمة التي تمزق الدولة الفرنسية.
وفي المقابل كان التيار المناهض لهم هم الذين سُمّوا باسم «الجيرونديت» Girondins الذين كانوا من أنصار نشر الثورة الفرنسية ومبادئها في كل الدول الأوروبية بقوة السلاح، فضلا عن تطور قناعتهم مع مرور الوقت بضرورة السيطرة على التيارات الثورية حتى لا تتحول فرنسا إلى حالة من الفوضى. وقد تصدي روبيسبيير لفكرهم، وذلك بالتأكيد على اقتناعه بضرورة نشر مبادئ الثورة الفرنسية، ولكن «ليس اليوم»، على حد تعبيره، مطلقا جملته الشهيرة: «لا أحد يحب المبشرين في زي الجندية»، أي إنه لا يمكن نشر هذا الفكر الثوري بقوة الجيوش، كما أنه أكد على ضرورة أن يصبح المجتمع ثوريا وأكثر عنفا لتحقيق أهدافه.
وقد بدأت كفة الأحداث تميل لصالح «اليعاقبة» بعد انتشار الفوضى في البلاد وتفسخ المجتمع بين طبقات وفئات وذوى مصالح، فكان هناك الملكيون الذين يرغبون في إعادة الملكية، كما كان هناك الثوريون بكل اتجاهاتهم الذين لا تعرف لهم بوصلة موحدة، كما كان هناك المؤيدون للجمهورية، وكان لطبقة رجال الكنيسة رأيها الخاص.. فكانت الفوضى تعم في البلاد. ووسط هذا خرج «اليعاقبة» وعلى رأسهم روبيسبيير الذي بدأ يعمل تدريجيا مع شخصيات مثل دانتون وميرابو لإحكام سيطرتهم على الساحة السياسية في فرنسا، وسرعان ما طرحوا فكرة إلغاء الملكية على وجه السرعة لاقتناعهم بصعوبة استمرارها بعدما ثار الشعب عليها. وبالفعل بدأت المشاورات حول مصير الملك، وعندها رفض «اليعاقبة»، وعلى رأسهم روبيسبيير، فكرة محاكمة الملك لأن المحاكمة قد تؤدي إلى تبرئته، وهو ما سيفسر على أنه ضربة صريحة وقانونية ضد الثورة نفسها، لذلك فالثورة يجب أن تمضي تحت أي ظرف وبأي ثمن. وقد خلصت التطورات إلى إعدام الملك لويس السادس عشر، فكانت جملة روبيسبيير الشهيرة: «لويس يجب أن يموت حتى تحيا الأمة».
وعلى الرغم من أن روبيسبيير نجح في هدفه هذا، فإنه بكل تأكيد فشل فشلا ذريعا في حمل مسؤولية إدارة الدولة الفرنسية، فالتخلص من القيادة السياسية بثورة ليس معناه نجاح الإدارة القائمة على الحكم، وهذا ما أثبته التاريخ من خلال هذا الرجل، فعندما آلت السلطة السياسية في فرنسا لما عرف باسم «لجنة الأمن العام» التي ترأسها روبيسبيير بدأت فرنسا تدخل في مرحلة تطبيق فكر روسو الذي عبر عنه من خلال شخصية كاريزمية ولكن مضطربة مثل روبيسبيير، فقد كان مؤمنا إيمانا تاما بفكر روسو بضرورة «أن تُجبر المواطنين على أن يكونوا أحرارا»، وكان دائما يقول في لجنته: «فرنسا محتاجة إلى إرادة موحدة»، وفي سبيله لتنفيذ ذلك، وضع خطة محكمة للتخلص من كل من كان يخالفه في الرأي أو التوجه، فكانت نتيجة فترة حكمه التي وصلت إلى قرابة سنة مجازر لا حدود لها، فتشير التقديرات إلى أن المقصلة وحدها حصدت قرابة 20 ألفا في الميادين العامة نوعا من القربان لأفكار الحرية، ناهيك بقرابة 30 ألفا لقوا مصرعهم رميا بالرصاص من الجيوش الثورية في البلاد، وكان على رأس الضحايا كل من خالف المجموعة في الرأي السياسي.
وقد بلغ اقتناع روبيسبيير ولجنته بضرورة التخلص من نفوذ الكنيسة الكاثوليكية ورجالها باعتبارها صاحبة أكبر تمركز للملكية الزراعية في البلاد وأغنى المؤسسات على الإطلاق، فضلا عن الغنى الفاحش ناهيك بقدراتهم على التأثير في المجتمع.. بلغ حدا بعيدا، وبالتالي جاءت عملية تقليم أظافر الكنيسة ورجالها من خلال تأميم أملاكها أو فرض القسم الوطني على كل رجال الكنيسة. وقد بلغ الرجل في تطرفه أن أعلن في احتفالية كبرى عن محاولة التخلص من المفهوم المسيحي ليحل محله فكرة الإله الواحد من خلال «الكائن الأكبر» ليكون أساسا لهذا المعتقد الجديد، وقد أقيمت الاحتفالات لهذا الغرض في باريس.
حقيقة الأمر أن الرجل على الرغم من أنه كان مؤمنا بنظريات روسو، فإنه لم يكن مدركا أن الشعوب لا تتغير بالقرارات الفوقية، كما أنها لا تتغير بالعنف أو القهر، ناهيك بتغيرها بتغيير المعتقد السياسي أو حتى الديني فجأة، فلقد رفض الفرنسيون كل هذا المتغيرات المتطرفة التي فرضتها هذه الشخصية المعتلة، وكعادة الشعوب، فإنها سرعان ما تلفظ ما ليس متوائما مع ثوابتها الراسخة، فذاق الرجل المصير نفسه الذي أذاقه لضحاياه حين أدركت النخبة السياسية من البرلمانيين وغيرهم من الساسة ورجال الجيش أن الرجل لا يمكن أن يستمر هكذا، خاصة مع بزوغ آراء داخل اللجنة يقودها دايتون بأن الإسراف في القتل والدم والتطرف لن يؤدي إلى تحقيق الأهداف السياسية، فما كان من روبيسبيير إلا أن لفق له تهمة الخيانة والتآمر مع أعداء الثورة ورفعه وعددا من أتباعه على المقصلة.
وقد اعتقد روبيسبيير أن حب العامة له من شأنه أن يحميه من المعارضة، فحتى كنيته بين الشعب بأنه «غير قابل للإفساد» لم تشفع له كثيرا، فلقد سئمت العامة الدم، وتكتل الأعداء ضده بأسرع مما كان يتصور، فاجتمعت الجمعية وقررت القبض عليه والتخلص منه هو ورجال لجنته. وتختلف الآراء حول ساعاته الأخيرة، فالبعض يرى أنه حاول الانتحار فأصابت الرصاصة فكه، بينما تروي مصادر أخرى أن القوة المكلفة بالقبض عليه أصابته في الفك، وبعرضه على الجمعية في اليوم التالي تقرر إرساله للمقصلة وسط تجمع كبير من أعدائه وعامة الشعب على حد سواء. ويقال إن الرجل كان همه الأزلي هو إزالة بقع الدماء التي انسابت على قميصه بسبب إصابته، فلقد كان مهتما بأناقته ومظهره أكثر من مصيره، فيما يوحي بكل تأكيد بأن الرجل كان يعاني اختلالات نفسية واضحة على رأسها «الوسواس القهري» إضافة إلى شعور واضح «بالبارانويا»، وهو ما يبين مدى مرضه النفسي.
حقيقة الأمر أنني كلما تأملت شخصية روبيسبيير، ازداد اقتناعي الكامل بأن السلطة لم تُخلق لتكون في أيدي أمثاله، خاصة إذا ما كانوا واقعين تحت ضغط فكري مبني على مؤسسية وصياغة فكرية غير قابلة للتنفيذ كالتي تقدم بها روسو، فتكون التجربة هي أساس الانتكاسة.. فهناك أمور في السياسة يجب ألا تخضع للممارسة والتجربة، فدماء الشعوب ومقدراتها ليست لعبة في أيدي المتطرفين الآيديولوجيين، فالأمم تحيا بمؤسساتها قبل ثوراتها.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.