هال براندز
كاتب من خدمة «بلومبيرغ»
TT

أوروبا لا تستطيع التخلي عن أميركا

في عام 1776، أعلن العالم الجديد استقلاله التام عن العالم القديم. واليوم، يعلن العالم القديم استقلاله التام عن العالم الجديد.
صار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون آخر زعيم أوروبي يعلن الاستقلال الاستراتيجي عن الولايات المتحدة بقيادة الرئيس دونالد ترمب، مؤكداً أنه لا يمكن لأوروبا أن تعتمد مجدداً على واشنطن في قضايا الأمن والدفاع، وقال إن الأمر متروك لنا اليوم لتحمل أعباء ومسؤوليات وضمان أمننا الذاتي، ومن ثم السيادة الأوروبية الكاملة.
إن فكرة محاولة أوروبا تحمل أكبر قدر من المسؤولية عن أمنها الخاص ليست بالفكرة السيئة. غير أن الحقيقة القاسية تقول إن الأوروبيين الذين سئموا من الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة، التي ثمة من يقول إنه لا يمكن الوثوق بها، ليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه على المدى القصير على أدنى تقدير. ومن شأن هذا أن يزيد من حدة الاستياء الذي يشعر به كثيرون في أوروبا من استمرار اعتمادهم الكبير على القوة العظمى التي تبدت علامات شرها.
وإن كانت تصريحات الرئيس الفرنسي تبدو مألوفة، فذلك لأنها متكررة ومعروفة. حتى قبل تنصيب الرئيس ترمب في الولايات المتحدة، كانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد أعلنت أنه يتوجب على الأوروبيين تحديد مصيرهم بأنفسهم، وهي المشاعر التي تعمدت تكرارها وتأكيدها بعدما تعمد الرئيس ترمب تجاهل الالتزام بالمادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي في اجتماع قمة الحلف الأخيرة في مايو (أيار) لعام 2017. وفي وقت لاحق من هذا العام، أنشأ الاتحاد الأوروبي منظومة الدفاع المشترك تحت مسمى «بيسكو» والتي يقدر البعض تطورها إلى ما يشبه الجيش الأوروبي الموحد.
وفي الأسبوع الماضي، قال وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، إنه ينبغي على أوروبا إنشاء قنوات السداد المستقلة عن الولايات المتحدة، واعتبارها من الوسائل التي تتفادى بها الشركات الأوروبية العقوبات الاقتصادية الأميركية الخاصة بالشركات، وبالتالي منع واشنطن من تدمير الاتفاق النووي المبرم مع إيران. ومن خلال توجيه المناقشات عبر الأطلسي بشأن حرب العراق، أعلن وزير الخارجية الألماني أنه يجب على أوروبا تحقيق الثقل الموازن عندما تتجاوز الولايات المتحدة الحد.
والذي يقصده هايكو ماس من ذلك - أوروبا المستقلة استراتيجياً عن الولايات المتحدة، وربما تعمل في خط مناوئ لها - من شأنه أن يشكل مروقاً كبيراً. منذ أواخر أربعينات القرن الماضي، لم يكن هناك نقص قط في حالات الإجهاد والأزمات والتوترات في العلاقات عبر الأطلسي. ولكن مع ذلك استمرت مقايضات الاستراتيجية الأساسية ما بين الجانبين رغم كل شيء؛ حيث توفر الولايات المتحدة الأمن والدفاع لأوروبا من خلال حلف شمال الأطلسي، وتأخذ شواغل ومخاوف الحلفاء في الاعتبار عند صياغة سياساتها الخاصة. وفي المقابل، سوف يقبل الحلفاء درجة من الإذعان الاستراتيجي لواشنطن؛ وسوف يقدمون الدعم والإسناد الدبلوماسي، ويساهمون بقدر من القوات في كل حرب تخوضها الولايات المتحدة على نحو تقريبي، لخدمة وتأييد القيادة الأميركية للعالم المعاصر.
وكما أشرت في مقال سابق، كان لدى كثير من الأوروبيين تحفظات متصاعدة بشأن السياسات الأميركية في عهد الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش (التي اتسمت بكثير من الأحادية والعدائية)، وسياسات باراك أوباما (التي اتسمت بكثير من التراجع والتخندق)، هذه الشكوك قد تضاعفت إلى مستويات غير مسبوقة في عهد الرئيس الحالي دونالد ترمب.
إنه يظهر ازدواجية واضحة فيما يتعلق بالضمانات الأميركية لبلدان الحلف، وقدراً لا بأس به من الاهتمام بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وشعار (أميركا أولاً) الذي قد أثار حتماً قدره المعتبر من القلق والمخاوف بشأن مدى التزام واشنطن بالأمن والدفاع الأوروبي. (ولقد نمت هذه المخاوف وتصاعد القلق حتى مع زيادة وزارة الدفاع الأميركية في إدارة الرئيس ترمب، تمويل مبادرة الردع الأوروبية، الأمر الذي يشير إلى مدى خطورة رؤية الرئيس الأميركي وخطابه بشأن الملف الأوروبي).
وأسفر رفض الرئيس ترمب قبول اتفاقات باريس المناخية، وانسحابه من الاتفاق النووي الإيراني - وهما اتفاقيتان تم التفاوض بشأنهما إثر مداخلات أوروبية كثيرة – عن تعزيز الاعتقاد بأن الولايات المتحدة لا تعبأ قط بالمصالح الأوروبية الحيوية. ودعم الرئيس الأميركي للسياسيين المناهضين للاتحاد الأوروبي، ووصفه المتكرر للاتحاد الأوروبي بأنه خصم اقتصادي كبير بدلاً من كونه شريكاً استراتيجياً للولايات المتحدة، قد أثار شبح القوة العظمى الأميركية التي ليست غير داعمة ومؤيدة بكل بساطة، وإنما باتت تنتهج خط العداء الواضح والنشط في مواجهة المشروع الأوروبي الموحد.
وفي ظل هذه الظروف، لا يمكن لأحد أن يُفاجأ بدعوة كبار الزعماء الأوروبيين إلى تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة. وهذه المشاعر، في واقع الأمر، قد أدت إلى تحفيز بعض التحركات الأخيرة في العلاقات الأوروبية الخارجية. ويعتبر الاتفاق التجاري الذي تفاوض عليه الاتحاد الأوروبي الشهر الماضي مع اليابان، من بين أمور أخرى، هو محاولة للحصول على شركاء تجاريين جدد وإبرام علاقات استراتيجية متنوعة مع التوجه القومي والحمائي الذي تعتمده الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة. ومبادرة «بيسكو» الدفاعية الأوروبية، من وجهة نظر بعض المؤيدين على الأقل، تعتبر خطوة مهمة على طريق القدرات الدفاعية الأوروبية المستقلة. وعلى الرغم من أن كثيرين في أوروبا يساورهم القلق البالغ من الممارسات التجارية الصينية المجحفة، فإن الاتحاد الأوروبي قد نجح في إبرام شراكة مع الصين تهدف إلى تحديث قواعد منظمة التجارة العالمية، المتعلقة بالدعم المالي وسياسات التكنولوجيا، في مواجهة ما يصفونه بأنه الهجوم الأميركي على هذه المنظمة.
ويوفر كل ما تقدم الخلفية المناسبة لتصريحات الرئيس الفرنسي الأخيرة. ولكن إن كان كثير من الأوروبيين لا يشعرون بالارتياح بشأن العلاقات عبر الأطلسي في هذه الأيام، فإن خيارات التوجه لأماكن أخرى – أو ببساطة الانطلاق المنفرد من دون شريك – ليست كثيرة؛ بل إنها محدودة للغاية.
على الصعيد التجاري، قد يتعاون الاتحاد الأوروبي مع الصين على المستوى التكتيكي في معارضة الحمائية الأميركية، غير أن الفكرة القائلة بأن الصين شديدة التحفظ والشغوفة بالتجارة يمكن اعتبارها بديلاً استراتيجياً جيداً بالنسبة لأوروبا، لا تزال تعد فكرة هزلية سخيفة. وفيما يتعلق بالاتفاق الإيراني، يمكن للمسؤولين الأوروبيين الحديث عن إنشاء قنوات السداد الجديدة، أو سن قوانين الحظر التي تمنع الشركات الأوروبية من الامتثال للعقوبات الاقتصادية الأميركية المفروضة على إيران، ولكن هذه الشركات الأوروبية لن تختار أبداً السوق الإيرانية على الأسواق الأميركية.
على الصعيد الأمني، يعتبر الضعف العسكري الأوروبي شديداً، لدرجة أن الاتحاد الأوروبي، أو أي رابطة أخرى من البلدان الأوروبية، سوف يستغرق عقوداً طويلة قبل امتلاك القدرة الكاملة على الدفاع عن الجناح الشرقي للقارة الأوروبية في مواجهة روسيا، ناهيكم عن إظهار القوة والبأس العسكري في المناطق المجاورة غير المستقرة، مثل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وربما يتحدث بعض الساسة الألمان عن الاستقلال الاستراتيجي وإعادة التوجيه، ولكن مع النظر إلى الجيش الألماني الذي يملك كثيراً من الغواصات التي لا تبحر، والطائرات التي لا تقلع، والدبابات التي لا تتحرك من مرابضها، فمن الصعب للغاية قبول هذه التصريحات والبيانات بأي قدر من الجدية. وعلى صعيد جملة من القضايا الأخرى ذات الأهمية، مثل مكافحة الإرهاب، فإن التعاون الأميركي الأوروبي عميق وراسخ ومثمر للغاية، لدرجة يصعب معها تصور أن القارة العتيقة يمكنها العمل بكفاءة وفاعلية في حالة غياب هذا التعاون الكبير والبناء.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»