تشويه سمعة العلوم الاجتماعيّة

تتعرض العلوم الإنسانية والاجتماعية في البلدان العربية إلى ما يمكن أن نصفه بالحملة الشرسة الممنهجة، هدفها الحط من شأن العلوم الإنسانية والاجتماعية. أي أننا نعرف منذ سنوات تحولاً كبيراً في مستوى كيفية تمثل تلاميذنا وطلبتنا لعلوم الإنسان والمجتمع، فنلاحظ ظهور تمييز تراتبي بين العلوم التجريبية والرياضيات والعلوم الاجتماعيّة، إلى درجة أن المتداول اليوم في الحس المشترك لمجتمعاتنا أن العلوم التجريبية العلمية هي وجهة المتفوقين، في حين أن الذين من تسعفهم نتائجهم الهزيلة أو المتوسطة سيكون مستقرهم الجامعي في اختصاصات تنتمي إلى العلوم الاجتماعيّة.
هناك سوء تقدير ونفور من اختصاصات مثل علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والجغرافيا واللغة العربية والحضارة والفلسفة. وهما نتيجة أسباب عدّة من بينها تراجع تصور المخيال الاجتماعي العام والأسري أيضاً وعدم حاجة سوق الشغل إلى هذه الاختصاصات.
السؤال هل أن ما يُبذل منذ سنوات من جهد للحط من قيمة ووظيفية العلوم الاجتماعية يندرج فعلاً في الاتجاه الصحيح؟
صحيح أنّه في عقود الثمانينات والتسعينات حدث نوع من الطفرة في عدد خريجي العلوم الاجتماعية وفشلت أسواق الشغل العربية في استيعابهم الشيء الذي جعل من الاختصاصات المذكورة جواز سفر آلياً للبطالة المزمنة، ولكنْ هناك فرق شاسع بين إجراء تعديلات في مستوى توزيع الطلبة حسب الاختصاصات والانخراط في ثقافة تحقير العلوم الاجتماعية واللغة العربية والتاريخ والفلسفة. فنحن أمام سلوك يتناول المعرفة بكثير من الجهل والتمييز.
وكي نفهم الخلل الذي أصاب تصور مجتمعاتنا وطلبتنا للاختصاصات المذكورة، يكفي أن نتأمل حالها في البلدان المتقدمة وصاحبة الإنجازات العلمية والابتكارات. تلك البلدان التي لم تغتر للخطوات الجبارة التي حققتها في مجال العلوم التجريبية والتقنية، ولم تنسَ أن الفلسفة هي أصل العلوم، وأن مَلَكة التفكير لا تعطي أرقى ما لديها إلا بتكوين معرفي عميق.
والمشكلة الأكبر أن التهميش الممارس ضد علوم الإنسان والمجتمع بشكل عام، هو تهميش يسير عكس الحاجة؛ فنحن اليوم في أمس الحاجة إلى العلوم التجريبية والتقنية والعلمية وأيضاً في حاجة أكيدة إلى العلوم الاجتماعية باعتبار أن لدينا مشكلات ثقافية مركبة ومعقدة، ونعرف حراكاً قوياً ولكن غير مُفكر فيه وغير مُبرمج له؛ حراك يتميز بالفوضى والغموض ومعرض في نتائجه للصدف والمآلات المجهولة.
فعندما نقوم بتحقير العلوم الاجتماعية كيف سنفهم مشكلاتنا الاجتماعية، وهل يساعد هذا المناخ على إنتاج باحثين يحللون الظواهر الاجتماعية ويساعدوننا على فهم مجتمعاتنا بطبقاتها وفئاتها وعلاقاتها الاجتماعية، وكيفية اعتمال المؤسسات الاجتماعية وظيفياً؟
كيف نؤسس لثقافة السؤال والتفكير بعد أن أصبح عدد طلبة الفلسفة أقلية، في الوقت الذي تتعالى أصوات النخب منادية بغرس التفكير النّقدي والنسبي والاتجاه نحو الأسئلة طرحاً وتجديداً لمواجهة تراث من الأجوبة الجاهزة المتحكمة في العقل العربي عموماً.
يبدو لي أن مؤسسات الأسرة والإعلام بصدد ارتكاب خطأ فادح، وهي تبني تمثلات سلبية حول علوم الإنسان والمجتمع، وبصدد الترويج لصورة دونية في مستوى الأهمية والدور والوظيفة لطلبة هذه الاختصاصات.
لا ننكر أن إيلاء العلوم التجريبية والتقنية أهمية مخصوصة، إنّما يمثل توجهاً إيجابياً وضرورياً ومن خلاله تحاول مؤسساتنا الجامعية تحقيق المعاصرة والتكيف مع الواقع العلمي وطبيعة المعرفة التي أصبحت تجريبية وتولي الاهتمام للعلوم الصحيحة أكثر فأكثر. ولكن المشكلة أنه في مجتمعاتنا فقط يتم إيلاء العلوم الصحيحة وعلوم الطبيعة الأهمية على حساب علوم الإنسان والمجتمع.
كان من الممكن التفكير بشكل مختلف تماماً وفيه تقدير لهذه العلوم التي لا غنى عنها في بناء معرفة الفرد وتصوراته. كان يمكن التشدد في هذه الاختصاصات عوض تهميشها خصوصاً أنّها تتطلب قدرة على التحليل والتفكير والتوليد الفكري.
من ناحية أخرى وهذا ما يثير الاستغراب حقاً هو أن الغالب على مقاربة ظاهرة الإرهاب والباحثين الذين تناولوا المتغيرات الاجتماعية للذين وقعوا ضحية شبكات الإرهاب وأيضاً قادة هؤلاء التنظيمات، أظهرت هذه المُقاربات والبحوث أن المنتدبين هم من أصحاب العلوم الطبيعية والتقنية، وأنّهم يفتقرون إلى التكوين في مجال العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة.
بمعنى آخر، فإنه عوض الدعاية لاختصاصات التاريخ والفلسفة والحضارة وعلم الاجتماع وعلم النفس وغير ذلك، فإن العكس هو الذي حصل.
لذلك فإن ما يبعث على القلق حقاً هو أن الحراك الحاصل في حقول اجتماعية عدّة غير قابل للوثوق فيه، لأن هذا الحراك قائم على أخطاء وإعادة تشكيل التصورات على نحو يقوم على الموضة والتقليد والشكلانيّة وليس على أسس جديدة ومُتجددة.
إن المجتمعات التي تهمش علوم الإنسان والمجتمع هي مجتمعات تتفادى فهم ما يعتمل فيها وما يحدث ويطرأ. ومثل هذه المجتمعات لن تنجح في المدى البعيد؛ لأن العلاقة بالمعرفة والعلوم شاملة وليست جزئية، وتربط العلوم علاقة تكامل لا تمييز.