سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

القضية أشمل وأعمّ

أعجبني قرار المملكة العربية السعودية تجميد علاقاتها التجارية والاستثمارية الجديدة، مع كندا، التي تعاملت مع شأن داخلي سعودي، على أنه شأن كندي يخصها، وعلى أنها بالتالي مدعوة إلى الخوض فيه كما تحب، وعلى أن الرياض لن ترد، ولن تصد، ولن تهتم، وإذا اهتمت - هكذا كان التقدير الكندي للموضوع في بدايته فيما يبدو - فسوف يخرج بيان عن الخارجية السعودية، يستنكر ما أقدمت عليه الحكومة الكندية، ويرفضه بالكثير، وفقط!
ولكنها فوجئت برد فعل لم تتوقعه، ولا كانت حتى تتخيل وقوعه. ومن فرط المفاجأة، فإنها راحت تردد كلاماً بلا معنى تقريباً، من نوعية أن وزير خارجيتها يتابع الاتصال مع الجانب السعودي، ومن نوعية أنها تراقب ردود الفعل، ومن نوعية أنها تتابع بقلق... إلى آخره!
فالمملكة تعرف جيداً، أن حكاية حقوق الإنسان صارت مجرد ورقة، من بين أوراق يجري اللعب بها على الدول عالمياً، وتعرف جيداً أيضاً، أن حديث كندا عن حقوق الإنسان، فيما يتصل بالأحوال في السعودية، لم يخرج عن هذه الدائرة، ولم يفارقها. فلم يحدث أن سمعنا من قبل، أن حقوق الإنسان في الرياض بالذات، قضية مؤرقة لهم في كندا إلى هذا الحد، ولا أنها مُقلقة لهم إلى هذه الدرجة، وإلا، فإننا في حاجة إلى أمارة نعرف منها أن رئيس الحكومة في مونتريال – مثلاً - لا يعرف كيف ينام؛ لأن مواطناً سعودياً محروم من حق من حقوقه، أو أن وزير خارجيته في أوتاوا، يظل يتقلب في فراشه طول الليل؛ لأن مواطناً سعودياً آخر يسعى إلى الحصول على حق من حقوقه، فيفشل، ولا يعرف كيف يصل إليه!
لم نسمع بشيء من هذا حدث من قبل، وإذا كان قد حدث، فإننا نطلب أمارة واضحة عليه، لعلنا ننتبه إلى أن حقوق الإنسان في السعودية، وفي العالم العربي كله بالضرورة، قد أصبحت هاجساً كندياً، يطارد المسؤولين الكنديين في اليقظة وفي المنام!
إنني لا أريد أن تؤخذ هذه النبرة في كلامي، على أنها رغبة مني في التقليل من شأن قضية حقوق الإنسان، في مجملها، أو حتى على أنها نبرة من جانبي، يبدو فيها قدر لا بأس من السخرية من موقع القضية في إجمالها على خريطة اهتمام حكومة كندا، لا، لا أريد هذا، ولا أقصده، ولكني أريد وأقصد وضع مسألة حقوق الإنسان في إطارها الصحيح، بحيث يستقبلها كل واحد بيننا، وكل مهتم بها، باعتبارها مفهوماً شاملاً لا يجوز أن نأخذ جزءاً منه، ونهمل الجزء الآخر، ولا أن نوجه الكاميرات إلى جانب منه، ثم نُغمض عيون الكاميرات ذاتها عن جانب آخر، ولا أن نميل إلى حق في هذا المفهوم دون باقي الحقوق!
ولعلنا نلتفت هنا إلى أن الحديث عن حقوق الإنسان يتم دائماً بصيغة الجمع، ولم يحدث أن تناولها أحد بصيغة الفرد. إنها دائماً حقوق إنسان؛ لا حق إنسان، بما يعني أنه عند التعرض لها في كل الأحوال، لا بد أن يتطلع إليها بوصفها باقة مجتمعة، لا بوصفها حقوقاً متفرقة متناثرة. حق منها هنا نركز عليه، كما هو الحال في الحالة الكندية التي بين أيدينا، ثم حق هناك لا يحظى باهتمام، ولا بحفاوة، ولا بشيء منهما معاً. فإذا حظي بشيء من الاهتمام، فلقصد، وإذا نال قدراً من الحفاوة، فلغرض!
وبعبارة أوضح: الإنسان، أي إنسان، يجب أن يتمتع بحقوق شتى، وخصوصاً حقه في أن يتلقى تعليماً جيداً، لا تعليماً صورياً، وحقه في أن يحصل على خدمة علاجية آدمية، لا خدمة شكلية لا مضمون فيها، وهذان حقان أساسيان، ومن بعدهما تأتي بالطبع حقوق أخرى كثيرة، من بينها بالتأكيد حقه في أن يعبر عن رأيه، دون تقييد، وبغير تضييق، وحقه في أن يعيش آمناً، وكذلك حقه في حرية السفر، والإقامة، والتنقل، والتملك، وحقه في أن يمارس ذلك كله، دون وصاية من طرف آخر، ما دام وهو يمارسها يراعي ألا يصطدم بحقوق الآخرين في الأشياء ذاتها!
ولكن الحاصل عالمياً، أن القضية تحولت من قضية إنسانية في الأساس، إلى قضية سياسية في الغالب. وفي كل مرة كانت تُثار، كان تسييسها حاضراً، وواضحاً؛ بل ومقصوداً، ومتعمداً. وقد كانت كندا في القلب من ذلك، وهي تتعرض لشأن سعودي، ظنته من بين حقوق الإنسان المعنية هي بها، وظنت نفسها مُخولة بتناوله على مرأى من العالم، ومُكلفة بالبحث فيه، وبالوصول فيه إلى قرار، وربما لهذا السبب غابت اللياقة الدبلوماسية الواجبة عن لهجتها، وهي تتكلم فيما تكلمت فيه!
ولأن القضية فقدت أصلها الإنساني الجامع، على يد أطراف دولية كثيرة، كان يحلو لها توظيفها في كل مرة، لا تأصيلها، فإن اللعبة الكندية عندما مضت في المسار المُسيس نفسه، بدت مكشوفة، وبدا الذين يلعبونها في أشد الحاجة، إما إلى التعامل مع حقوق الإنسان على وجهها العادل، وإما إلى الكف تماماً عن الذهاب إليها بالتقسيط، الذي يُبدي بطبيعته وجهاً، ويخفي وجوهاً!
ولو أن أحداً تقصّى الحقائق المخفية، لا الظاهرة، في كل المرات التي كانت فيها حقوق الإنسان مثار كلام بين دولتين، على مسرح العالم، فسوف يصل ببعض من الجهد، وبقليل من الذكاء، إلى أن الإنسان ليس هو المقصود من وراء الكلام، ولا حقوقه طبعاً، وأن المقصود شيء مختلف لا علاقة له بحقوق الإنسان، التي تظل لافتة يحملها مَنْ يُخفي وراءها ما يخفي، ويضع خلفها ما يضع!
وقد كان هذا تحديداً هو سبب إعجابي، ليس فقط بالقرار السعودي الذي جمّد العلاقات مع كندا، على مستوييها التجاري والاستثماري، ولكن أيضاً بالطريقة التي أدارت بها الدبلوماسية السعودية معركتها. لقد اتخذت هذه الدبلوماسية قرارها، وهي على ثقة من أن الطرف الكندي كان يلعب في غير ملعبه، وكان يتعامل مع قضية حقوق الإنسان بالمنطق نفسه الأعوج، الذي لا يرى فيها سوى ما يرغب في أن يراه. ولم يكن غريباً، والأمر كذلك، أن تلجأ كندا إلى دول حليفة لها في أوروبا، فتطلب منها التوسط لإصلاح ما أفسدته في علاقاتها مع السعودية. ما أفسدته هي، ولم يفسده غيرها!
لا تستطيع أي دولة في العالم، أن تقول إن حقوق الإنسان فيها قد وصلت إلى درجة مثالية. فكل دولة تحاول ذلك فتحقق ما تستطيعه في هذا الطريق، ولا تنكر أنها لا تزال تحاول. غير أن هناك فرقاً بين أن تكون كل عاصمة مدعوة إلى السعي نحو هذا الوضع المثالي، وبين أن تخضع لابتزاز، ظاهره حقوق الإنسان، وباطنه شيء آخر لا تُخطئه العين!
الحالة الكندية تظل فرصة مناسبة يجب أن يقال فيها بوضوح، إن حقوق الإنسان قضية أشمل من مجرد حق إنسان في أن يتكلم! قضية أشمل لأنها أعمق، وأعم لأنها أوسع!